ارشيف من : 2005-2008
أدب التحريض: التعامل المباشر مع الجماهير
كثيرة هي الأعمال الأدبية التي توغلت في الواقع السياسي والاجتماعي، وجسدت عبر شخوصها قضايا مفصلية بالنسبة لدول وشعوب، وفي أحيان عدة يخرج العمل الأدبي عن الإطار المحايد ليكون الكاتب طرفاً من خلال أبطال العمل وأماكنه كما زمانه. فَيُمِرُّ رسائله التوجيهية أو التحريضية الدعائية بشكل مباشر حيناً ورمزي في أحيان أخرى. تخطى الأدب السياسي لحظويته الانفعالية ليكون قطعة فنية في مواضع كثيرة، حيث ينصهر التوتر مع الإبداع ليولد النص بملامح هجينة لا منتمية تستلهم الاختزال والتطويل في آن، كما التدوين التاريخي والأحداث الافتراضية التي لم تحصل سوى في مخيلة الكاتب.
على العكس مما قد يظنه البعض فثمة تحف أدبية ذات مكانة عالمية هي مندرجة تحت لواء التحريض السياسي والاجتماعي، وهو حال أعمال الكاتب الكولومبي غبريال غارسيا مركيز الحائز جائزة نوبل 1982، وهنري ميلر ونجيب محفوظ، وقبلهم كان مكسيم غوركي وتولستوي.
أما في الشعر فالتحريض السياسي كان في أعلى نبراته مع الشاعر التمثيلي بابلو نيرودا الحائز أيضاً نوبل، ومن العالم العربي اللائحة لا تنتهي من أبو القاسم الشابي، الى محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل، ومن شعراء العامية هناك صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم.
رأت الناقدة المصرية فريدة النقاش في دراسة عنوانها "من أدب التحريض السياسي"، أن هذا الأدب يؤدي دوراً مهماً في إضاءة الوعي الجمالي العام، ضوءاً يمنح أملاً في التغيير. كذلك يؤدي دوراً مماثلاً بالنسبة الى الطليعة المثقفة بإخراجها من عزلتها والتعامل المباشر مع الجماهير.
وقالت النقاش: ان التاريخ عرف انتصارات كبرى حققها الكادحون، وكان مفجرها الأساسي بعد الظلم الواقع عليهم، تلك الكلمات التي تحرك وعيهم وتدعوهم الى التضامن والعمل المشترك. وأضافت في الدراسة التي شاركت من خلالها في مؤتمر أدباء مصر أنه يجب النظر الى هذا النوع من الأدب من منظور الثقافة الأكثر شمولاً بعيداً عن التقيد بنصوص أدبية يقتصر أثرها على المثقفين.
وأشارت الى أن أدب التحريض السياسي ينتسب الى الأدب الثوروي بمعناه الأوسع، وقد يتسع ليشمل المنشور السياسي والهتاف والشعار والقصيدة والمسرحية والخطبة السياسية، وكل إنتاج أدبي مجهول المؤلف تتوارثه الأجيال، ويبث فيه كل جيل معاني جديدة، ويصبح جزءاً من التراث الشعبي.
الأدب كمعبر لفهم التاريخ
يسهل وضع كتاب التشيلي كارلوس فرانز، "إل ديزيرتو" ـ الصحراء ـ الحائز جائزة "لا ناسيون سود اميركا" الأرجنتينية في خانة الحركة الجماعية لتقويم حكم بينوشيه التي ترسخت أخيراً في بلاده، إذ يعتبر الأدب أحد المعابر لفهم التاريخ، ويشارك فرانز فيه من خلال تساؤله إن كانت سلبية المجتمعات في مواجهة إرهاب الدولة تعزى فقط الى الخوف، أم الى اللامبالاة والذنب أيضاً. ويستخدم الكاتب هذه المعضلة أداة ينكأ بها جراح التاريخ الذي ينتظر أن يكتب بطريقة معينة.
في هذه القصة تستفيق وحوش الذاكرة الراقدة في حياة لورا عندما تقرر العودة الى بلادها بعد عشرين عاماً في المنفى قضتها في المانيا. وها هي تعود الى البلدة الصغيرة، حيث أصبحت قاضية وهي لما تزل يافعة، حين رأت الفرقة العسكرية بقيادة كوسيرس مقبلة بعيد الانقلاب العسكري على حكم سلفادور اللندي (11 أيلول/1973) لكي تعدم المعارضين السياسيين، ترتب عليها عودتها لتتسلم مهمتها في التشيلي التي تمر بمرحلة ديموقراطية انتقالية، مواجهة سكان البلدة وإنكارهم لأحداث الماضي من جهة، وإعادة خط مسيرة ابنتها في شكل معاكس، عندما كانت هذه تبحث عن أجوبة لم ترض أمها أن تزودها بها طوال سنين من جهة أخرى.
أما السؤال الذي يقض مضجع كلوديا، ابنة لورا فهو: "أين كنت وقت حدوث هذه الفظائع في بلدتك يا أمي؟" فالفتاة تطالب بأن تعرف كيف تصرفت أمها القاضية عندما كان الجيش يقترف الفظائع.
يعتبر كارلون فرانز أن الأدب وسيلة ناجعة للتعمق في تصرف المجتمع خلال سنوات بينوشيه وما بعدها، ويلوح في أفق الكتاب طموح الكاتب في توقيع العمل الأكبر حول الديكتاتورية.
وشهد شاهد
التمهيد القصير الذي كتبه جيلاد أتزمون لروايته المميزة "حبي الواحد والوحيد" يترك القارئ حائراً بين أن يكون هذا التمهيد وجهاً من وجوه التقنيات الروائية المعاصرة، ويصبح بالتالي جزءاً من الرواية نفسها. وأن يكون حادثاً حقيقياً جرى للمؤلف اليهودي المنشق والمقيم في لندن بسبب رفضه للطبيعة اللاأخلاقية للمجتمع الاسرائيلي.
نادراً ما وضعتنا رواية أو عمل أدبي إزاء حقيقة الكيان الصهيوني وممارساته اللاأخلاقية إزاء شعبه وإزاء الآخرين كما هو الحال مع رواية جيلارد أتزمون. فالمؤلف يعمد الى تفنيد العقلية الاسرائيلية القائمة على تجييش الشعور بالاضطهاد وتحويله الى ايديولوجيا حاكمة، وعلى ابتزاز العالم برمته عن طريق إذكاء الشعور بالذنب تجاه اليهود بمناسبة وبغير مناسبة. كما يعمد الى فضح الكثير من الأكاذيب الاسرائيلية المتعلقة بعمليات الفلسطينيين ومقاومتهم كما حدث إثر اغتيال سكيني الذي قتله أفروم واتهم الفلسطينيين بقتله. وهذه العقلية نفسها هي التي تسخر كل شيء من أجل مصلحة "اسرائيل"، ولا تتورع عن تحويل الالات الموسيقية الى أدوات لتهريب المواد النووية وأدوات التفجير المختلفة. وهي التي تجعل من كل شيء مسموحاً باستثناء عاطفة الحب التي لا تنفع الدولة العبرية في شيء، بل تسهم عبر رومنسيتها الفائضة في تقويضها وإغراقها في الهشاشة! والأهم في رواية أتزمون أنها لا تقدم مقارباتها للواقع الاسرائيلي في إطار الشعارات السياسية المباشرة، بل من خلال بنية سردية جريئة ومشوقة ونابضة بالحياة.
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1168 ـ 30 حزيران/يونيو 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018