ارشيف من : 2005-2008

الحقيقـة المحمّـديّـة في المـدائـح النبويّـة

الحقيقـة المحمّـديّـة في المـدائـح النبويّـة

يُعتبَر موضوع الحقيقة المحمّديّة من أهمّ الموضوعات الّتي شغلت شعراء المديح النبويّ عبر التاريخ، نظراً لشدّة تأثّر الشعراء به، واختلاف النظريّات الّتي ذُكرت حوله؛ إذ نجد معظم شعراء المديح النبويّ يُشيدون بهذه الصفة للرسول (ص)، ونعني بذلك صفة الأسبقيّة على الخلق والأفضليّة على جميع الأنبياء.‏

فمن أين نشأ مفهوم الحقيقة المحمّديّة وما دور الصوفيّة في نشر هذه النظريّة، وما موقف الشعراء منها، هل التزموا بما جاء في الروايات المنقولة أم أبدعوا معنى آخر من مخيّلتهم حول هذا الموضوع، وما تأثير ذلك على الروح الدينيّة والقيم الإسلاميّة الّتي سادت في العصور الإسلاميّة المختلفة، وهل كان لهذه الحقيقة دور في مواجهة التحدّيات الفكريّة والعقائديّة والفلسفيّة الّتي كان يواجهها المجتمع الإسلامي؟‏

يعود شغف الشعراء بنظريّة الحقيقة المحمّديّة إلى زمان بعيد، وإلى جملة عوامل، منها ما يرجع إلى نشأة المذاهب الصوفيّة وكثرة اهتمامها بالغيبيّات، ومنها ما يعود إلى ردّ فعل الشعراء، على تعصّب أهل الكتاب ضدّ المسلمين، فقاموا بالدفاع عن نبيّ الإسلام وأشادوا بمناقبه ومعجزاته وفضائله لا سيّما الحقيقة المحمّديّة.‏

ونظريّة الحقيقة المحمّديّة استُمِدَّت في الواقع والأساس من العقائد الإسلاميّة، ومنها على سبيل المثال، الحديث المنسوب إلى الرسول محمّد (ص)، والّذي يقول فيه "كنْتُ نُوْرَاً وَآدَمُ بَيْنَ الْطِيْنِ وَالْمَاء". فجميع شعراء المديح النبويّ يذكرون هذه الحقيقة دون استثناء، لكنّ تفسيرهم لها يختلف بين شاعر وآخر. وبذلك يُمكننا أن نقول إنّ ثبوت الحقيقة المحمّديّة كان أمراً بديهياً أو مسلّماً به عند شعراء المديح النبويّ وإن اختلفوا في تفاصيل هذا الأمر.‏

فالشاعر الصوفيّ مجد الدين الوِتْرِي، تعرّض لهذه الفكرة في مدائحه النبويّة، وذهب إلى أنّ النور المحمّدي كان موجوداً قبل خلق العالم وكان اسمه على العرش مكتوباً، إذ يقول:‏

بِنُوْرِ رَسُـوْلِ اللهِ أَشْـرَقَتِ الْدُّنَـا فَفِـي نُـوْرِهِ كـلُّ يَجِـيءُ وَيَذْهَبُ‏

بَرَاهُ مَجْـدُهُ الْحَـقّ لِلْخَلق رَحْمَةً فَكـلُّ الْـوَرَ? فـي بـرِّهِ يَتَقَلَّـبُ‏

بَدَا مَجْـدُهُ مِنْ قَبْـلِ نَشْـأةِ آدَمٍ وَأسْمَاؤه في الْعَـرْشِ مِنْ قَبْـل تُكتبُ(1)‏

وكذلك فعل البُوصِيْرِيّ فأشار إلى هذه الحقيقة في عدّة مواضع من مدائحه، منها الهمزيّة والبُرْدَة والمحمّديّة، وقد أكد على قدم النور المحمّدي وسجود الملائكة للنبيّ، ودعوة آدم باسمه ليتوب الله عليه، مبيِّناً بذلك فضل الرسول وعظيم منزلته عند ربّه فيقول شاعرنا:‏

كانَ سِــرّاً فِي ضَمِيْـرِ الْغَيْبِ مِنْ قَبْـلِ أَنْ يُخْلَـقَ كـوْنٌ أَوْ يَكوُنَـا‏

أسْجَــدَ اللهُ لـهُ أمْــلاكــهُ يَـوْمَ خَــرُّوا لأَبيـهِ سَاجِِـديْنَـا‏

وَدَعَــا آدَمُ بِاسْـمِ المُصْطَفَــى دَعْـوَةً قَـالَ لَهَـا الصِّـدْقُ آمِينـا(2)‏

ويتحدّث الصَّرْصَّرِيّ عن قدم نور الرسول، وأنّه تنقل في صلب آدم وبعد ذلك انتقل إلى المصطفين من الأنبياء والرسل والأتقياء من بني آدم الصالحين إلى أن وصل إلى عدنان الّذي نال بهذا النور المنزلة الرفيعة، وما زال النور ينتقل حتّى انعقد على رأس هاشم إكليل فخر لا يشبهه إكليل. واتّصل النور بعبد المطّلب وابنه عبد الله، ولم تلبث أضواء النور أن انبثقت في المشارق والمغارب بمولد النبيّ محمّد بن عبد الله (ص).‏

وقد شغل الإسراء والمعراج اهتمام جميع شعراء الصوفيّة وشعراء المديح النبويّ أيضاً، لأنّه رمز الفيض الإلهيّ، وتأكيد الحقيقة المحمّديّة، ففي ليلته أوحى الله إلى نبيّه بما أوحى، وهو يختصر معراج البشريّة كلّها وارتفاعها إلى مقام القدسيّة والفنّاء في محضر الله. ومن خلال معنى الفيض ذلك، يستغرق الصوفيّون في المعاني الغيبيّة، ويذهبون محلّقين في العالم الروحي الغيبي، بعيداً عن عالم المادّيّات. يقول ابن عربي في ذلك:‏

أَلَـمْ تَـرَ أَنَّ اللهَ أَسْـرَى بِعَبْـدِهِ مِنَ الْحَرَمِ الأَدْنَى إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏

إِلَى أَنْ عَلا الْسَّبْـعَ الْسَّمَوَاتِ قَاصِدَاً إِلَى بَيْتِـهِ الْمَعْمُـوْرِ بِالْمَـلأ الأَعْلَى‏

إِلَى الْسِّدْرَةِ الْعُلْيَـا وَكرْسيِّه الأَحْمَى إِلَى عَرْشِهِ الأَسْنَى إلَى المُسْتَوَى الأَزْهَى‏

فَكانَ تَدَلّيـهِ عَلَى الأَمْـرِ إذْ دَنَـا مِنَ اللهِ قُرْبَـاً قَـابَ قَوْسيْنِ أوْ أَدْنَى(3)‏

والواقع أنّ ابن عربي لا يساهم في نشأة المديح النبويّ ونموّه بهذا فحسب، وإنّما أيضاً في التأكيد على المكانة الرفيعة للنبيّ محمّد (ص) ضمن نظريته الصوفيّة وكلامه على الرسل والأنبياء والأولياء، إذ اعتبر الإنسان الكامل يتمثّل، في أسمى مظاهره، بمحمّد رسول الله((4).‏

أما حديث المتصوّفة عن الإنسان الكامل، فيدفعنا للحديث عن تفسيرهم لنظريّة الحقيقة المحمّديّة الّتي تعتبر أهمّ الأركان الّتي تقوم عليها العقيدة الصوفيّة، إذ إنّ المتصوّفة يعتقدون بأنّ النور المحمّدي موجود قبل هذا الوجود، وأنّه تجسَّد في شخص آدم وظلّ ينتقل من نبيّ إلى آخر حتّى ظهر في شخص نبيّنا، ويرى الصوفيّون أنّ هذا النور لا يزال ينتقل من قطب إلى آخر، وسيبقى كذلك إلى يوم الدين(5). وتجدر الإشارة إلى أنّ نشأة هذه النظريّة لا تزال موضع جدل بين الباحثين، الّذين اختلفوا في مصدرها ما بين السنّة والشيعة والمتصوّفة(6).‏

وقد استفاد شعراء المديح النبويّ، من الآراء والنظريات الصوفيّة لا سيّما نظريّة الحقيقة المحمّديّة، إذ شكلت هذه الحقيقة جزءاً مهمّاً من قصيدة المديح النبويّ، وتأثَّر بها الشعراء، كما تأثَّروا بقصائد ابن الفارض، وابن عربي، وحوّلوها إلى مدائح نبويّة، بعد أن كانت وجداً صوفيّاً محضاً، لا سيّما منهم البُوْصِيْرِيّ والصَّرْصَرِيّ.‏

والظاهر أنّ فنّ المديح النبويّ قد تغذّى من تلك المعاني الوجدانيّة والمفاهيم الصوفيّة، الّتي أوجدها الشعراء الصوفيّون، لتصبح من المؤثّرات المميّزة في قصائد المديح النبويّ(7).‏

وما من شك في أنّ المتصوّفة كان لهم دور كبير في تعميق الروابط الوجدانيّة بين النبيّ وأمّته، فبلغ بهم شعر المديح النبويّ مستوى عالياً واستطاعوا إخراج هذا المديح من إطاره التقليدي إلى مستويات فنّيّة راقية(8)، فلم تعد المدائح النبويّة تعني الصفات الخَلْقيّة أو الخُلُقيّة للرسول (ص) ولا المفاهيم الدينيّة والقيم الروحيّة الخاصّة بالرسول (ص) وإنّما استطاعوا أن يُحرِّكوا المشاعر ويستولوا على الأحاسيس ويسخِّروا عناصر الطبيعة لتعيش معهم محبّة الرسول وعشق الأماكن المقدّسة الّتي شهدت وجوده وبعثته وكان فيها روضته ومثواه.‏

وقد أشار العديد من الباحثين إلى أثر شعر التصوّف في قصائد المديح النبويّ، كموضوع التوسّل بالرسول وكلمتي "الطريقة" و"الوسيلة" وفكرة قبّة الوجود، التي استفادوها من ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكيّة"، كذلك لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد المديح النبويّ من الأفكار الصوفيّة، الّتي شكلت عنصراً مهمّاً من عناصر هذا المديح.‏

وقد لاقت الحقيقة المحمّديّة قبولاً واسعاً لدى شعراء المديح النبويّ لا سيما الصَّرْصَرِيّ، فترجمها أشعاراً عميقة الدلالة على تلك الحقيقة، فكانت أجمل ما مدح به رسول الله:‏

أَوْدَعْتَـهُ تـرَائِبَ الْسَّـادَةِ الْغُـرِّ بُطُـوْنَ الْنَّجَـائِب الطَّاهِــرَاتِ‏

مِنْ لُـدُنِ آدَمَ الْصَّفِـي إلَى هَـا شِمٍ احْتَـلَّ أشْـرَفَ الأَبْيَــات(9)‏

ولعلّ تلمذة البُوْصِيْرِيّ على يد أبي العبّاس المرسي وهو تلميذ الشاذلي والقطب الثاني لهذه الطريقة الواضحة، كانت السبب والهادي للبُوْصِيْرِيّ، لأن يلتزم تقديس الكتاب والسنّة دون إمعان في الإشارات الباطنيّة والأسرار الخفيّة"(10).‏

ونرى التزامه بهذه الطريقة بشكل صريح وواضح في إيمانه بأزليّة الوجود المحمّدي الّذي يفيض على جميع الكائنات منذ الخلق ومنذ كان الأنبياء... يستمدّ منه كلّ موجود وجوده، كما استمدّ منه الأنبياء منذ آدم، فنور النبوّة انتقل عبر أجيال من الأتقياء من لدن آدم إلى أن تشكل معنىً وصورةً في النبيّ محمّد فاكتمل بذلك الوجود الظاهري مع الوجود الجوهري ليصبح الرسول أكمل مخلوق، وتظهر الحقيقة المحمّديّة للبشر على صورتها الحقّة.‏

وهكذا أصبح الشعر الصوفيّ والمدائح النبويّة صنوينِِ لا يفترقان، بحيث أثرى كلّ منهما الآخر، وجدّد فيه، فالحقيقة المحمّديّة قد تقاسمها شعر التصوّف وشعر المدائح النبويّة، إذ عبّر كلّ منهما عن هذه النظريّة، وعمَّقا مفهومها، ووسَّعا دروبها، كما أنّ الشعر الّذي كان ينشد في مجالس سماع الصوفيّة كان يشتمل على المدائح النبويّة وشعر الحبّ الإلهيّ الّذي تفرّدت به الصوفيّة.‏

أحمد لامعي‏

هوامش:‏

(1) الواعظ البغدادي، معدن الإفاضات، ص 7. الواعظ البغدادي: محمّد بن رشيد المعروف بالوِتْرِي، عُرف بمديحه النبويّ، تُوُفِّي سنة 662/1264. بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، 5/20.‏

(2) البُوصِيْرِيّ، الديوان، ص 458. البُوصِيْرِيّ: محمّد بن سعيد بن حماد الصنهاجي، من أشهر شعراء المديح النبويّ، كان متصوّفاً وشاعراً منطلق اللسان، تُوُفِّي سنة 696/ الصَّفَدي، الوافي بالوفيات، 3/106؛ and others,"Busiri" in E.I.2, V0l 2, p 677 Robert .‏

(3)م.ن.، 2/3. ابن عربي: محيي الدين، محمّد بن علي بن محمّد الحاتمي، رأس المتصوّفة وشاعرهم، له مؤلّفات كثيرة في التصوّف، تُوُفِّي سنة 638/1240. ابن شاكر، فوات الوفيات، 3/435.‏

(4)انظر: ابن عربي، فصوص الحكم، ص 62 وبعدها؛ الفتوحات المكّيّة، 1/49 وبعدها؛ محمود سليمان، القصيدة الدينيّة العربيّة، ص204.‏

(5)راجع: آدم متز، الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجري، ص 389-390.‏

(6)انظر: عبد اللطيف حمزة، الحركة الفكرية في مصر في العَصرين الأيّوبي والمملوكي، ص 98.‏

(7)انظر: عمر فرّوخ، ذروة الفنّ الصوفي في الأدب العربي، ص 121.‏

(8)انظر: زكي مبارك، التصوّف الإسلامي، 1/268؛ عبد الفتّاح الدماصي، الشعر في ظلال المماليك، ص 120.‏

(9)الصَّرْصَرِيّ، الديوان، ص 65.‏

(10)م.ن.، ص 51.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1168 ـ 30 حزيران/يونيو 2006‏

2006-10-30