ارشيف من : 2005-2008
"صلح الحسن" و "ثورة الحسين":منهجان لغاية واحدة
كان صلح الحسن عليه السلام مع معاوية من أشد ما لقيه أئمة أهل البيت من هذه الأمة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم.
لقي الحسن عليه السلام بهذا الصلح محناً يضيق بها الوسع، لا قوة لأحد عليها إلا باللّه عزّ وجل. لكنه رضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً بما يبتغيه من النصح للّه تعالى، ولكتابه عز وجل ولرسوله، ولخاصة المسلمين وعامتهم، وهذا الذي يبتغيه ويحرص عليه في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل.
ولا وزن لمن اتهمه بأنه أخلد بصلحه إلى الدعة وآثر العافية والراحة، ولا لمن طوّحت بهم الحماسة من شيعته فتمنوا عليه لو وقف في جهاد معاوية فوصل إلى الحياة من طريق الموت، وفاز بالنصر والفتح من الجهة التي انطلق منها صنوه يوم الطف إلى نصره العزيز وفتحه المبين.
إذ لو غامر الحسن يومذاك بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم، فواجه بهم القوة التي لا قِبَل لهم بها مصمماً على التضحية تصميم أخيه يوم "الطف"، لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعاً، ولانتصرت "الأمويّة" بذلك نصراً تعجز عنه إمكانياتها، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأمنياتها.
ويمكن أن نستشف هذا المعنى من قول الإمام الحسن (ع) لأحد أصحابه سليمان بن صرد الذي لامه لميله نحو الصلح: "يا حجر ليس كل الناس تحب ما تحب ولا رأيهم كرأيك، وما فعلت إلا إبقاءً عليك، فوالله لو سرنا إليهم بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر".
وقد بانت هذه النتيجة للإمام (ع) في أكثر من موقف، منها عندما دعا أتباعه الى المرابطة في النخيلة (موضع قرب الكوفة على الطريق إلى الشام) قائلا: "بلغني أنّ معاوية بلغه أنّا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرّك لذلك.. اُخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنّخيلة حتى ننظر وتنظروا، ونرى وتروا".. فسكت الجميع.
وكذلك عندما أراد أن يختبر موقفهم من الصلح بعد أن ألحّ معاوية عليه في ذلك، قال (ع) لهم: "ألا إن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلنا وأخذنا لكم الرضا".. فنادى القوم بأجمعهم: "بل البقية البقية".
من هنا رأى الحسن عليه السلام أن يترك معاوية لطغيانه ويمتحنه بما يصبو اليه من الملك.. لكن أخذ عليه في عقد الصلح أن لا يعدو الكتاب والسنة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوّية سلطانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنب أذنبه مع الأمويّة، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن، الى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالماً بأن معاوية لا يفي له بشيء منها، وأنه سيقوم بنقائضها.
هذا ما أعده عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه "الأموي" المموّه ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذ هو وسائر "أبطال الأموية" كما هم، جاهليين لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة.
وكان معاوية قد عُرف في سائر الأقطار بكونه من قريش ـ أسرة النبي (ص) ـ وأنه من أصحابه، حتى كان في هذا أشهر من كثير من السابقين الأولين الذين رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، كأبي ذر وعمار والمقداد وأمثالهم.
وبالجملة فإن هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد، أملاه ظرف الحسن، إذ التبس فيه الحق بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية.
تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه.. وتسنى له به أن يلغم نصر الأموية ببارود الأموية نفسها، فيجعل نصرها جفاءً وريحاً هباءً.
لم يطل الوقت حتى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح.. انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، اذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ: "يا أهل العراق، إني واللّه لم أقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا ولا لتحجوا، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون!.. ألا وإن كل شيء أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدميَّ هاتين!".
فلما تمت له البيعة خطب فذكر علياً فنال منه ومن الحسن..
ثم تتابعت سياسة معاوية تتفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الإسلام: قتلاً للأبرار وهتكاً للأعراض وسلباً للأموال وسجناً للأحرار وتشريداً للمصلحين وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص وابن شعبة وابن سعيد وابن أرطأة وابن جندب وابن السمط وابن الحكم وابن مرجانة وابن عقبة وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان، ليجعله بذلك أخاه، يسلطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويحرق بيوتهم ويصطفي أموالهم، ولا يألو جهداً في ظلمهم بكل طريق.
ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ويوم الحرّة ويوم مكة، إذ نصب عليها المجانيق (مفردها: منجنيق).
وهكذا تم للإمام (ع) كل ما أراد، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأموية بالجلاء، واستتب لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح اللّه بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.
فكانا عليهما السلام بذلك وجهين لرسالة واحدة، كل وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها. فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل اللّه، وإنما صان نفسه يجندها في جهاد صامت، فلما حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنية قبل أن تكون حسينية، لأن الحسن أنضج نتائجها ومهد أسبابها.
كان نصر الحسن الدامي موقوفاً على جلاء الحقيقة التي جلاها ـ لأخيه الحسين ـ بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين نصره العزيز وفتح اللّه له فتحه المبين.
الانتقاد/ مقالات ـ الانتقاد1155 ـ 31 آذار/مارس 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018