ارشيف من : 2005-2008

الغوص في بحر الاعلانات:إبداع فانتشار فأرباح

الغوص في بحر الاعلانات:إبداع فانتشار فأرباح

اذا ما تجاوزنا الوسيط الذي يعرفنا الى الإعلان، يمكننا أن نربط حجم التأثير ببراعة الفكرة الإعلانية وعناصر جذبها، والأمر لا يقل شأناً عن ولادة قصيدة أو فكرة لوحة أو بداية اختراع، فالإبداع في عالم الإعلان يشكل بيضة القبّان التي تحدد وزن الشركة الإعلانية وحجمها في السوق، والأمر يتطلب مواصفات خاصة تتجاوز الدراسة الأكاديمية نحو ثقافة خاصة يجب على العامل في حقل الإعلان امتلاكها، ويفترض بهذه الثقافة أن تحمل بعداً شمولياً يستخلص الخطوط العريضة من شتى المجالات الفنية والسياسية والرياضية والاقتصادية وغيرها، فإعلان عن قارورة عطر قد يحتاج إلى بيت شعر أو مثل شعبي أو لاعب كرة سلة.‏

لكن الثقافة وحدها لا تكفي فهناك موهبة الابداع والابتكار التي يتميز بها بشر عن آخرين لأسباب تتجاوز المنطق، جمال الاعلان يتحكم بسعره، والسعر يتحكم بجماله، وهناك مضمار واسع تسرح فيه الدولارات وتمرح بحسب نوع المنتج ووسيلة نشره والبلد الذي سينزل فيه.‏

الابداع‏

الابداع هو النظر إلى الأمور من زاوية مختلفة. حين يجتمع أشخاص الى طاولة واحدة ويتبادلون وجهات النظر، يتوقف الدماغ عن العمل كوحدة تفكير منفصلة، بل تتوالد الأفكار بينه وبين أدمغة الآخرين، فتأتي نتيجة ذلك فكرة مبدعة.‏

وهذه الآلية متبعة في أكثر شركات الإعلان حيث يتم الانطلاق من فكرة أو كلمة ثم يبدأ التفاعل للوصول الى نتيجة يتم تبنيها من قبل الفريق، ثم تطرح على المُعلن حيث يقبلها أو يرفضها أو يشرع بمناقشتها.‏

الكاريكاتور والإعلان‏

تتقاطع مواصفات الإعلاني بمواصفات رسام الكاريكاتور، فالاثنان يصهران عشرات الأفكار لتتولد من تحت أيديهم فكرة واحدة مختزلة تحمل شروط "ما قل ودل"، والاثنان أيضاً يعملان على قهر المخيلة وإجبارها على أن تبيض في أوان محدد وذلك بعكس الشاعر الذي ينتظر لحظة التجلي والمناخ المناسب لكتابة القصيدة. ويتجاوز هذا التقاطع الحيز التحليلي نحو المساحة التطبيقية فهناك الكثيرون من رسامي الكاريكاتور الذين يعملون في شركات الاعلانات ويقدمون خدماتهم الفكرية والعملية من خلال رسوماتهم.‏

أفكار‏

إن أفضل الاعلانات هي تلك البسيطة المبتعدة عن التكلف والبذخ المادي والفكري، لكن الأمر يحمل من الصعوبة الكثير ما يعني أن السائد ليس كذلك، إنما هناك أمثلة يمكننا ذكرها كإعلان تصدر صفحات المجلات وكان عبارة عن صفحة بيضاء ذيل كعبها بعبارة أن هذه المساحة كانت لمسحوق "الغسيل" "..." إلا أنه قد غسل الصفحة وجعلها بيضاء ناصعة. أما على احدى الإذاعات فتم ايقاف البث لمدة وجيزة كانت غاية في الصمت ثم يليها صوت إذاعي قائلاً: "هذا ليس انقطاعاً عن البث ولا عطلاً فنياً بل كنتم تستمعون الى محرك سيارة "..." الجديدة.‏

وعلى محور آخر هناك اعلانات وخاصة التلفزيونية منها وصلت تكلفتها المادية الى أرقام خيالية غالباً ما تذهب الى النجم الذي تم اعتماده لتسويق المنتج.‏

سرقة‏

حقل الاعلان كشتى الحقول يعتمد ضمن سرّ المهنة على لعبة الاقتباس والانتحال وأحياناً النسخ الساذج، لكن انتشار الفضائيات بدأ يقلل من هذه الظاهرة حيث يمكن ضبط أي عملية انتحال صفة بواسطة "الريموت كونترول".‏

الملصق‏

اذا أردنا أن نطل على خامة اعلان لنعطي مثلاً عن كيفية هندسة الإعلان فمن المنطقي والطبيعي أن نأخذ الملصق (البوستر) كنموذج لقراءة المشهد، ذلك أن له تاريخا هاما في رحلة الاعلان.‏

كان الملصق حتى مطلع الستينات لوحة غير منجزة تماماً وعملاً يأتي من فوضى رسم هائلة. لكن الثورة الاجتماعية في الستينات أحدثت تغييرات مهمة صار معها الملصق جزءاً من الميديا الحديثة، ومن سلطة التصاوير والتصاميم والألوان، وقد دخلت أسماء كبيرة دنيا الملصق، مثل سلفادور دالي ورينيه ماغريت وبابلو بيكاسو، وكان ذلك حينما اعتمد الملصق بشكل كامل على الرسم ثم دخلت الصورة الفوتوغرافية لتأخذ حيزاً هاماً في الثمانينات والتسعينات، وقد تطلب الأمر استغناءً عن فناني الملصق.‏

في أروقة ذاكرة الملصق الفرنسي مكان للفن السابع، المستهلك الأبرز للإعلانات والملصقات يقحم فيها الرسام "فيراتشي" التصوير في تصاميمه، أما السبعينات فكانت مرحلة التحولات الكبرى حيث تجد التقنيات الجديدة طريقها في هذا المجال، وتبرز تساؤلات عن دور وكالات الإعلان بأسلوبها الاميركي في الانقضاض على المفهوم التقليدي لمهنة فنان الملصق مبتكراً ومؤلفاً ومستقلاً.‏

في شهر حزيران من هذا العام 2005 افتتح في متحف "سرسق" معرض يحمل عنوان "خمسون عاماً على الملصق الفرنسي" ومثل خلاصة أعمال كبار الفنانين الفرنسيين في عالم الدعاية ريمون سافينياك، برنار فيلمون، جان كارلو، بول كولان، اندريه فرنسوا وغيرهم.. وتنوعت المواضيع بين الترويج لفكر سياسي يتداخل فيه الفلاحون والعمال وحب الوطن وصولاً الى ملصق شديد الصراحة يدعو الى دفن رب العمل، وتضمن المعرض مواضيع أخرى عرجت على التبغ والصابون وشركات الطيران..‏

وتبدو في المعرض مراحل تطور فن الملصق عبر انتقالها من التعبير المباشر الواقعي الى الرمز والايحاء، ومن الدعاية الكلاسيكية الجدية الى اتباع التعبير الكوميدي.‏

لبنان‏

لا شك أن شوطاً كبيراً قطعه الملصق في لبنان، ووصل الى أعلى مستوياته برغم شبه الغياب للفن والفنان التشكيلي الذي يبصم العمل بنكهة مميزة، لكن يتم الاستعاضة عن الأمر بجمال الفكرة وأناقة التوزيع في العناصر وجودة الطباعة.‏

أما في الدول العربية الأخرى فيتفاوت المستوى لكن الغالب على البوستر فيها فجاجة اللون ومساحة الصورة أو الرسم وبروز الاسم وسوء استخدام الفراغ ما يعطي للحيز الاستهلاكي الشعبي الحصة الكبرى من الفئات المخاطبة.‏

علماً أن دولة شرقية مثل ايران قد وصلت بفن الملصق الى درجات تنافس فيها دولاً كبرى، لا بل هناك شخصية للبوستر الايراني يستشعرها أي ناظر أو متابع لحركة الملصقات هناك.‏

الأسعار‏

لا يشكل الملصق مرفقاً مالياً ضخماً أو استثنائياً في دنيا الإعلان، لكنه جزء من منظومة يصل سقفها المالي الى ملايين الدولارات، وسلطة واحتكار ونفوذ وسيطرة، ويتربع التلفزيون على رأس هرم هذه المنظومة التي تصرّف الثواني الى دولارات.‏

685،04 مليون دولار. إنه الرقم الذي ضخته الشركات السعودية في خزائن شركات الاعلانات ووسائل الاعلام في الدول العربية، العام 2004، أرقام الربع الأول من العام 2005 أقفلت على 203،79 مليون دولار، بمؤشرات نمو عالية ومتحققة لا محالة، وهنا يمكننا تلمّس صورة الوضع وحجم مداولات البورصة الاعلانية. واذا ما قرّبنا الصورة أكثر نحو "تسعيرة" الاعلانات في بعض التلفزيونات العربية نجد أن المعدل الوسطي هو ألفي دولار للدقيقة الواحدة، ويرتفع جداً هذا الرقم في حال عُرض الاعلان ضمن برنامج استثنائي تضمن لقاءً نادراً مع شخصية فنية أو استثنائية أو فيلم عرضٍ أول، وغيرها من البرامج التي تستقطب أكبر نسبة مشاهدة، وطبعاً ينخفض هذا الرقم اثناء فترات عرض ما قبل الظهر أو ما بعد منتصف الليل. والوضع ينقلب كلياً إذا ما قارنا إعلاننا العربي بنظيره الغربي الذي تتخطى مروحته احياناً عتبة المليون دولار للدقيقة الواحدة.‏

ورقم المليون أو نصف المليون هو سعر إعلان على صفحة كاملة في صحيفة أميركية شهيرة، بينما يتراوح السعر في صحيفة لبنانية بين الثلاثة والخمسة آلاف دولار للصفحة. لكن بين السطور هناك أسعار خاصة للاعلان المكرر، وهناك شطر له علاقة بتبادل خدمات أو تسوية أوضاع أو تحية ذات مغزى تجعل الاعلان في حكم المجاني.‏

المردود‏

لو لم يجن الاعلان المردود المادي والمعنوي المطلوب لما استمرت الحلقة التصاعدية في دنيا الاعلان والاعلام، ولذلك ليس هناك دفع في غير محله، ولا أفكار إبداعية مهدورة، والشركات التي تعلن بالالاف تجني حصاداً بالملايين، والذي يعلن بالملايين يقطف بالمليارات، وليس سراً أن شركة مثل "جنرال موتورز" يصل رقم ميزانيتها الى الحجم الذي يوازي ميزانية دولة نفطية كبرى.‏

ولقراءة الواقع بشكل أفضل نأخذ مثلاً عن "سلعة" تعاني ما تعانيه من مشاكل، وهي الكتاب وتحديداً الكتاب الأدبي. فقد تسببت مقدمة البرامج الحوارية الشهيرة أوبرا وينفري باحتلال الروائي وليام فوكز الفائز بجائزة نوبل في الآداب صدارة قائمة أفضل الكتب مبيعاً، فأثبتت بذلك أن فقرة "نادي الكتاب" في برنامجها الشهير هي من أهم وسائل زيادة المبيعات في مجال النشر.‏

فخلال 24 ساعة من اختياره كأفضل كتاب خلال الصيف عبر فقرة نادي الكتاب الخاص بالبرنامج قفزت مبيعات المجلد الذي يضم روايات فوكز الثلاث، وهي "على فراش الموت"، و"الصوت والغضب" و"ضوء في اغسطس" الى المركز الثاني على موقع أمازون بعد رواية سلسلة هاري بوتر الجديدة لجيهكيه رولينج التي ستطرح في الأسواق في تموز المقبل. وذكرت مجلة "بابليشر ويكلي" أن وحدة فينتاجي التابعة لدار راندوم للنشر شحنت 500 ألف نسخة من المجلد. وبدأ نادي الكتاب كفقرة في برنامج أوبرا وينفري الحواري في عام 1996. وساعد وضع شعار نادي الكتاب الخاص بأوبرا على غلاف الكثير من الروايات التي وقع عليها الاختيار، في ارتفاع مبيعاتها بما يزيد على المليون نسخة.‏

وعقب اختيار وينفري لرواية "شرف عدن" في صيف 2003 باعت الرواية ما يزيد على 1،2 مليون نسخة كما باعت رواية "آنا كارينينا" التي اختارتها كأفضل رواية في صيف 2004 ما يزيد على 900 ألف نسخة، علماً أن أوبرا تقوم بهذه الخطوة دون أن يكون لها حصة من مردود المبيعات، انها الاعلانات، أو الرسائل التي تطاردنا أينما ذهبنا وكيفما التفتنا وذلك ضمن منظومة: فكرة فإعلان فانتشار فأرباح.‏

عبد الحليم حمود‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1155 ـ 31 آذار/مارس 2006‏

2006-10-30