ارشيف من : 2005-2008
وفاة الرسول الأكرم: انقطاع النبوة وارتفاع الأمان
بقلم الشيخ سمير رحال
لم يكن ارتحال النبي (ص) عن هذه الدنيا مشابهاً لارتحال من سبقه من الأنبياء عليهم السلام، على الرغم مما يجمعهم من صفات وأهداف، بل كان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من عمر البشرية وارتباطها بالله وأخبار السماء. ولندع بيان ذلك إلى صنو النبي ووصيه الإمام علي عليه السلام حيث يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلياً عن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفذنا إليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً والكمد محالفاً... ولكنه ما لا يملك رده ولا يستطاع دفعه. بأبي أنت وأمي، اذكرنا عند ربك...
بهذه الكلمات المعبرة عن مدى الحزن الكبير لفراق رسول الله (ص) اختصر أمير المؤمنين (ع) الفاجعة الكبرى التي حلّت يوم الثامن والعشرين من صفر في السنة الحادية عشرة للهجرة، حيث ارتحل رسول الله (ص) عن هذه الدنيا لمجاورة الرب الغفار.. مصيبة لم يمتلك أمامها أمير المؤمنين إلا أن يبث عبارات الأسى والألم مسلّماً لله تعالى في قضائه.
إنها مصيبة ونازلة لا نازلة مثلها، وضعت حداً لتجربة نبوية فريدة قادها رسول الله (ص) وتمكن خلالها من إحداث تغييرات مهمة في شبه الجزيرة العربية لتطال في ما بعد أرجاء المعمورة، فكان أن تأسست حضارة إسلامية عريقة وعمّ الإسلام الأرض.
ونحن في ذكرى وفاة رسول الله (ص) سنتناول هذا الحدث من ناحيتين: الأولى واقع الحدث، أي ما جرى فعلاً قبيل وفاته (ص) إلى ما بعد وفاته، والأخرى ما تركه ارتحاله (ص) من أثر على البشرية.
فعلى المستوى الأول أراد رسول الله (ص) قبل أن يرتحل إلى بارئه أن يضمن للأمة من بعده استمرار التجربة بنجاح، لذا أراد أن يعلن أمام الملأ موقفا مهما اختار هو (ص) زمانه ومكانه، ليكون وقعه أبداً في الذاكرة بحيث لا يستطيع أحد أن يلغيه أو يحدث فيه تشويهاً أو تحريفاً.. أراد أن يعلن أمام الناس من يقود التجربة من بعده، ويمضي بها إلى حيث أراد الله عز وجل. روى الشيخ الكليني (قده): أن رسول الله (ص) بقي في المدينة بعد الهجرة عشر سنين من دون أن يحج، حتى نزل في السنة العاشرة قوله تعالى: "وأذِّن في الناس بالحج.."، فأمر رسول الله (ص) المؤذنين بأن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم أن رسول الله (ص) يحج في عامه هذا، وكتب إلى من يبلغه كتابه ممن دخل في الإسلام أن رسول الله (ص) يريد الحج.
إذاً رسول الله (ص) قام بدور اعلامي كبير ومهم، ويفسر هذا الاهتمام الكبير ما جرى في حجة الوداع وما قاله رسول الله (ص) وما أعلنه أمام الحشد العظيم.. فبعد أن أدى مناسك الحج خطب النبي في الناس، ووعظ فأبلغ في الموعظة، ونعى إلى الأمة نفسه وقال: قد دُعيت ويوشك أن أجيب، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم، وإني مخلّف ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ثم نادى بأعلى صوته: ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، فقال لهم: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.
فالنبي (ص) نُعيت إليه نفسه وأعلن ذلك أمام الناس، والموسم موسم حج، بل هي حجة الوداع وآخر موقف يقفه النبي (ص) في الحج، والحشود كبيرة حضرت من كل فج عميق.. كل هذه العوامل أعطت لما أعلنه (ص) بعداً إعلامياً مهماً لا يملك أحد أن ينفيه.
وما زال النبي (ص) يكرر ما أعلنه في الحج في مجلس بعد مجلس ويقول: "ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله".
لقد مضى (ص) وهو في حجر أمير المؤمنين (ع) حيث أوصاه: ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني الى القبلة وتولَّ أمري وصلِّ عليَّ أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى.
هذه المواقف المتعددة لرسول الله (ص) أبرزت الاهتمام الكبير الذي أولاه (ص) لمسألة الولاية من بعده.. ومن جانب آخر ظهر جلياً من خلال مواقف بعض الصحابة بعدم التجاوب مع نداءات النبي (ص) وهو حي يرزق، بل ما اتهم به النبي (ص) من قبل البعض، ظهر من خلال ذلك كله ما سيكون عليه أمر هذه الأمة بعده (ص)، من التشتت والاختلاف والتنكر لمبادئ الإسلام وتوجيهات النبي (ص).. فهم اختلفوا في حضرته وعصوا أوامره وآذوا النبي بعد وفاته في أهل بيته، حتى شكاهم أمير المؤمنين الى رسول الله (ص) وقال: "ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد (الاعوجاج)!.. والى جانب اهتمام النبي (ص) بأمر الولاية من بعده في مرض الوفاة، حيث أمره الله بذلك وبه كمل الدين، ركّز (ص) على الاهتمام بكتاب الله تعالى وأهل بيته والتمسك بهما وقال: ألا وإني سائلكم عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفونني فيهما".. وقال في موقف آخر: "أوصيكم بأهل بيتي خيراً".
وخرج النبي (ص) الى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين عليه السلام حتى صعد المنبر، فجلس عليه وقال: معاشر الناس قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به.. معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلا بالعمل، ألا لا يدّعِ مدّع ولا يتمنَّ متمنّ، والذي بعثني بالحق نبياً لا ينجي إلا عمل مع رحمة، لو عصيت لهويت.. اللهم قد بلغت".
فالإنسان عندما يوصي بشيء لا شك في أن ما يوصي به يشكل اهتماماً خاصاً له، لذا فما أوصى به النبي (ص) في آخر ما تكلم به قبل وفاته كان له أهمية كبرى.. وقد ركّز (ص) في وصيته على أهمية التحلل من حقوق الناس قبل الوفاة، والورود على الله تعالى وليس لأحد عليه تبعة أو حق.. والأمر الآخر أنه أبرز قيمة كبرى للعمل وعدم الاستناد الى أي أمر آخر، وأن الإنسان مرهون بعمله، لذا خاطب النبي (ص) ابنته فاطمة (ع) قائلاً: يا فاطمة اعملي لنفسك، فأنا لا أغني عنك من الله شيئاً.
أما على المستوى الثاني، فصحيح أن النبي (ص) ليس بدعاً من الرسل وقد ارتحل الى الله تعالى كما ارتحل من سبقه من الأنبياء، لكن ما يميزه (ص) أنه خاتم النبيين ورسالته آخر الرسالات، لذا شكلت وفاته محطة مهمة في مسيرة البشرية، ولذا قال في ذلك أمير المؤمنين ما نقلناه عنه في البداية: "لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء ...". فوفاه النبي (ص) تعني ـ عدا انقطاع الناس عن النبي (ص) بجسده وروحه ـ تعني انقطاع الوحي وأخبار السماء، وظاهرة الوحي كانت تمثل الارتباط بين السماء وأهل الأرض، وتمثل أيضاً الاهتمام الإلهي والرعاية الإلهية للبشر في مسيرتهم نحو الله تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه".. وهذا الانقطاع للوحي بقدر ما يعني أن البشرية قد وصلت الى مستوى عال من الرشد استحقت من خلاله أن تكون محلاً للرسالة الكاملة الخالدة، شكل بداية لاختلاقات وصراعات ونزاعات لم تكن سنوات البعثة النبوية الشريفة ـ وخصوصاً في المرحلة المدنية ـ كافية لمنعها. فالنبي (ص) قام بإنجاز عظيم وأحدث تغييراً هائلاً، وجعل من الناس المتفرقين في الأهواء والمطامع والغارقين في ظلمات الجهل والفساد، جعل منهم أمة عظيمة لم تقف أمامها الحضارات الأخرى.. لكن هذه الأمة لم يكن لديها المناعة الكافية أمام أدواء الجاهلية، فأراد النبي (ص) أن يكمل مسيرتها بربطها بأهل بيته، لكي يتعمق الإسلام كما هو في نفوسهم، ولكي يعوه بكل تفاصيله وأبعاده.
الانتقاد/ مناسبات ـ العدد 1155 ـ 31 آذار/مارس 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018