ارشيف من : 2005-2008
حمار كفرشوبا
كان عند أبي حسين حماران، يتبادلان نقله حيثما ذهب، وينقل عليهما الحطب وأكياس الطحين وأشياء أخرى، وكان إلى جانب ما يملكه بستان استأجره من رجل هرب كما هرب كثير من الناس في سنوات الاجتياح بعدما فقد أولاده، واستبدّ به الخوف والترويع.
بقي أبو حسين، وهو رجل ربعة عالجه الزمن بشيء من القسوة، فاجتاح البياض لحيته ورأسه، لكن قامته ما زالت منتصبة فوق جرح الزمن، يبتسم في هدوء، يتمتع بطيبة متوارثة، كريم إلى حد معقول. قال ذات يوم لجندي يهودي يهدده: إن الحياة نزهة في بساتين الزمن وأنتم ترونها خوفاً مستمراً.
كان جنود الاحتلال يتفننون في الترويع والتنكيل بالأهالي، فدمروا البيوت الأشجار، وسدوا منافذ القرية، همهم أن يرحل الناس وتبقى الدار قفراً. فتحولت مراعي المعز والأغنام والأبقار الى أدغال للخنازير والذئاب وهوام الزواحف.
ولم يبق في هذه القرية الجنوبية سوى هذين الحمارين وأبي حسين، وكان العجماوان يدركان قدر الرجل، فهو حسن العشرة، يبجلهما على نفسه، يختار لهما العشب، يخفف حمليهما، يسقيهما من الماء الذي يشرب منه، ينظّف مربضيهما كل صباح. وازدادت محبته عندهما، فألقاه ألفة فريدة فاح عبقها في ربوع كفرشوبا وجبل الشيخ وسفوح الجليل.
ذات مساء حزين صعد أبو حسين إلى قمة القرية، فانداحت أمامه حقولها المنبسطة، ورأى المستوطنات تلتهم أراضي الفلاحين، فنفرت من عينيه دمعات حارة، وتعالى صوته المتهدج بموال جنوبي في لكنة فلسطينية وإمالة سورية "يا دار إمتي يقمو حرارنا يا دار.. يا دار إمتي يعود حبابنا يا دار".
أحسّ الصديقان بالوحدة، وبدت الدنيا على قدر خرم إبرة، خرجا بحثاً عن الشيخ العزيز، وجداه مسنداً ظهره إلى جذع سنديانة، وفي عينيه بقايا دموع. يا لها من لحظة حرجة لم يتعودا رؤية أبي حسين يبكي. نظر كل واحد إلى الآخر في وجوم تام. وفهم كل منهما ما يحس به الآخر.
تقدّم الحمار الأول إلى أبي حسين مرخياً ظهره، وتقدم الثاني أيضاً، ربّت أبو حسين على رقبة كل منهما دون أن يمتطي أياً منهما.
ومشى الثلاثة في سكون تام حتى وصلوا إلى المنزل، وأدرك العجماوان أنّ أبا حسين حزين لأنه أضحى غريباً في أرضه ليس له نصير أو نسيب، يصيح ولا مجيب. تحولت القرية إلى سجن وما زال متسلحاً بعناد صلب.
أرخى الليل سدوله، ولم يرم النوم عيون الحمارين، فنهض الأول وأيقظ الثاني لحضور اجتماع طارئ.
قال الأول: لقد أُهين أبو حسين: فالعمل ممنوع والأشجار تقلع والتصريح لا يعطى والأولاد شُرد من شرد، وقتل من قتل.
وقال الثاني: هل نسيت البيوت التي هدمت على رأس سلطانة وأولادها ومعزاتها؟
قال الأول: سنصدر بياناً ندين فيه ما تعرض له أبو حسين على يد جنود الاحتلال، بل نستنكر ونشجب بشدة.
قال الثاني: ومتى كانت الحمير تتكلم مثل هذه اللغة، توقظني من النوم لتقول مثل هذا الكلام… عيب يا صديقي هذا هراء، من سيسمعك؟ ومن سيراك؟ لو كان هذا يجدي لأوقف المستوطنات.
قال الأول: ما العمل اذن؟
قال الثاني: عليك لبس البردعة غداً صباحاً وأن ننزل إلى الساحة ونواجه العدو، وسيختفي، ستتحرر المزارع والبيوت والتلال والجبل وفلسطين.
قال الأول: رجعنا للخطابات الرنانة.
قال الثاني: سترى كيف تكون البداية! حرّر نفسك ثم انطلق.
نهض الثلاثة مع الفجر، وكعادته ألبس أبو حسين حماريه برادع، وانطلق متخفياً في الثنايا المتعرجة بين الأشجار بعيداً عن أنظار الجنود. وصل ثلاثتهم إلى البستان، حفر الشيخ حول الأشجار، وسقى الصغيرات منها ببعض ماء كان على ظهر الحمار. وفجأة مرت دورية ووقعت عيناها على الرجل، صوبت الرشاشات وبعض المدافع المحمولة على الأهداف الثلاثة. تقدم جندي مدججاً بالسلاح وقال: أنت مخرب. من جاء بك الى هنا؟
قال أبو حسين: هذا بستاني وهذه أرضي وذاك بيتي. كيف تسألني وأنت الذي أتيت دون إذن؟ قال جندي آخر: خذوه الى التحقيق. سيق الحماران، وكبلت يدا الرجل العجوز. وصل الجميع الى الثكنة.
تقدم الضابط والعنجهية بادية عليه وأمسك محاذراً ببردعة الحمار وقال: تخريب، لم يكمل، وقد عالجه الحمار برفسة مزدوجة ألقته أرضاً، انبطح على إثرها كل الموجودين.
نهق الحمار الثاني، برطع في الفضاء، استدار بقوة ورفس جندياً كان على الأرض.
هرب الحماران واشتد حنق بعض الجنود، فلحقوا بهما ودوّى اطلاق النار في كل المنطقة لكنهما كانا قد تواريا بين الأشجار. مكث أبو حسين في قسم التوقيف ثلاث ليال. وفي كل ليلة كان الحماران يخرجان الى المزرعة ليلاً، ويحدثان حركة ترعب الجنود فيزداد اطلاق النار. وفي هذه الأثناء بدأ الخوف يغادر القلوب والناس يبحثون عن دور في المقاومة، وبدا الشبان يتنقلون في الأودية والمزارع ليلتحقوا بالمقاومين.
وفي صباح يوم جمعة، جاء أبو حسين فوجد الحمارين ينتظرانه. تذكر مشهد الضابط الذي انبطح أرضاً وانبطح الجميع معه، فضحك ملء شدقية لكنّه سمع أصوات جنود ورصاص وصيحات تكبير.
قال الحمار الأول: نعقد اجتماعاً.
قال الثاني: انتهى وقت الاجتماعات.
أما أبو حسين فأخذ إبريق ماء وبدأ في الوضوء، في حين كانت نظراته تتابع كتلة نار حطت رحالها في مستوطنة.
فاضل كثيري
الانتقاد/ قصة قصيرة ـ العدد 1156 ـ 7 نيسان/أبريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018