ارشيف من : 2005-2008
"دوّار الحجر" لحسن نعيم:حكايا الأرض والإنسان
"دوّار الحجر" هو العمل الروائي الثاني للزميل حسن نعيم بعد روايته الأولى "شتاء وغرباء". يقع هذا العمل في مئة واثنتين وخمسين صفحة من الحجم المتوسط، يتصدر صفحته الأولى إهداء إلى أبي هادي، وأكبر الظن أن المقصود بالإهداء هو السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله دام ظله، ثم يتلو ذلك تعريف موجز من المؤلف بالأحداث والشخصيات والأماكن الواردة في الرواية بأنها من نسج الخيال، وإذا وجد أي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأشخاص وأحداث واقعية فهو محض صدفة.
وأنا بهذا لا أشاركه صحة هذه الإلماعة وهذا القول لعلمي أن ما ورد في هذه الرواية من أسماء وأحداث وأماكن هو محض واقعي، وليس من نسج الخيال لمعرفتي الحقيقية ببعض أشخاصها وأحداثها وأماكنها، وهذا لا يعيبها ولا يعيب مؤلفها كونها تتحدث عن واقع معيش يحمل أشخاصه أعباء ما يعانون وما يتطلعون إلى حياة تظللهم فيها الطمأنينة في واقع أفضل.
أما في الصفحة التي تلي فيطالعنا قول لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه: "وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي اليه تصير، ويدك التي بها تصول".
من يقرأ هذا القول يعتقد للوهلة الأولى أنه معزول عما تقدم وتأخر من سياق الرواية ومسارها، فكأنه "حجر الدوّار" الذي تحدثنا الرواية عنه في ثغوره وانبثاقه وسط مجرى النهر. لكن موقع هذا القول والمكان الذي وضع فيه يدفعنا للاعتقاد بأن المؤلف قد أحسن اختيار المكان وتوصيفه وتوظيفه خدمة للنص وموضعه الذي تدور حوله أحداث الرواية كلها، كون مكان الرواية وأشخاصها وأحداثها تخص المؤلف في الصميم، فالمكان قريته، ومحتدها الاجتماعي أهله وأقاربه، وأحداثها تعنيهم وتعنيه في الوقت ذاته، هذا من ناحية أما من الناحية الأخرى فإن هذه القرية قد ارتبطت بالمقاومة الاسلامية منذ نشوئها، وكانت أحد حصونها وملاعب مقاتليها الذين تجمعهم بأبي هادي "السيد حسن نصر الله" علاقات حميمة تتجاوز في عمقها الروابط العائلية إلى ما هو أعمق بكثير والتي هي روابط الهدف والمصير.
تتداخل، في رواية دوّار الحجر، جغرافية المكان بالزمان حاملة هموم إنسانها ومعاناته وتطلعاته إلى حياة كريمة وتوقه إلى العلم والمعرفة، حيث تبدأ الرواية ببشارة العم ناصيف بإبن أخيه العائد من روسيا وانهماكه بإنهاء عمله في خدمة مواشيه ليسرع لملاقاته واستقباله مع أفراد العائلة، في نفس الوقت كان صاحب "البشارة" يمتطي صهوة الجواد إلى صخرة دهرية تطلع على العاصي بصفصافه الوارف حيث رعاة العجول والبقر يطلقون شتائمهم عليها وعلى أصحابها، وتأخذ صاحب البشارة الدهشة وهو يتأمل الصفصاف المتهدل استحياءً، والماد جذوره إلى أعماق الأرض، فتتمتم شفتاه "ما أشبه هذه الصفصافة بشجرة عائلتنا الضاربة الجذور في أرض دوّار الحجر الممتدة الأغصان فوق رؤوسنا كمظلة تقينا المطر" هذه العبارة التي يريد من خلالها إخبارنا بعراقة عائلته التاريخية وعراقة وجودها في دوّار الحجر التي هي قرية المؤلف، وأنها بفروعها وأغصانها لا تزال وارفة العطاء.
وتعود بالمؤلف الذكرى إلى حفلة الوداع التي أقامها رفاق أخيه عامر وعائلته وما فعلوه من رقص وفلقة واصفاً بإسهاب ما جرى في تلك الليلة، ولا ينسى عمه ناصيف القلب الرؤوم وتلك الفتاة التي تربطها بعامر زمالة الدراسة وربما أشياء أخرى حيث كانت العيون ترعى خطواتها وتلاحق حركاتها، وهي تودع عامر قائلة له "برد في روسيا يا تقبرني" مشيحة بوجهها المضرج بحمرة الحياء ودموع الفراق.
بعد سفر عامر فجعت العائلة بالأب والأم، لكن العم ناصيف وأخته ليلى حلا مكانهما، اهتما بشؤون العائلة ورعايتها وتأمين ما يلزمها، كيف لا وهو القلب الكبير الذي ربى أخوته بعد موت والده الشيخ زين العاصي، واهتم بهم بالرغم من صراعه مع زوجة أبيه الثانية، ثم يعود الراوي وعلى لسان عمه ناصيف ليحدثنا عن أمجاد جده زين العاصي وبطولاته ومشاركته في الثورة ضد الفرنسيين، وقبل ذلك علاقته بالسلطان عبد الحميد، وما ناله من نياشين وإقطاعات مكافأة له على أعماله البطولية وصداقاته، وما قام به لإصلاح ذات البين بين العشائر والقبائل المتصارعة ومشاركته لهم مرّ الحياة وحلوها.
فزين العاصي بنياشينه وبطولاته وكفاحه يمثل ملحمة شعبه الصامد على شظف العيش، والذي كان دائماً يجابه المستعمر والدخيل ويحضن بالحنو والمحبة أبناء بلده، يعمل على إزالة خلافاتهم وتوحيدهم باذلاً كل غالٍ ونفيس ليبقى الوئام سيد الموقف بينهم.
وتعود الرواية تصف لنا قوة ناصيف وقدراته المتعددة وبطولاته التي استطاع من خلالها إنقاذ أميرة من خاطفيها وتزويجها لأخيه قاسم الذي أصبح ثرياً بعد نزوحه الى بيروت وجهاده المتواصل في العمل التجاري. لكن العم قاسم الذي انفتحت أبواب الدنيا في وجهه سطع نجمه في سماء الثروة والجاه، وبالرغم من مظاهر السعادة التي كان يتقلب بها بقيت مشاعر الألم والمرارة تحز في نفسه يكابد تباريحها في قرارته، ويعاني من انعكاساتها في بيته، فالله أنعم عليه بعدة أولاد لكنهم كانوا جميعاً إناثاً، وهو يصبو لولدٍ ذكرٍ يرث جاهه وماله وعزه ويحمل اسمه ليبقى بيته مفتوحاً تتلاعب في أفيائه وأفانينه نبضات الوجود، وتزقزق في أرجائه حناجر الحياة مالئة الدنيا حبوراً تتراقص على أنغامه أبعاد الخلود وأرجائه، فالعم قاسم مثله مثل جميع أبناء جلدته ممن يعتقدون بأن البنت ليست استمراراً لأهلها، ولا تفتح بيتاً لهم بالرغم من أنهم يعتبرون بناتهم شرفهم وتاج رؤوسهم. وتشاء الصدف بالعم قاسم أن يلتقي بفتاة من عمر بناته جميلة ومثقفة اسمها ايفا يتيمة فيقدم لها المساعدة لكنها تأخذ بمجامع قلبه فتملؤه بالأمل والحياة من جديد، يرى فيها نهاية لمعاناته ومكابداته مع زوجته، فيقرر الزواج منها ويخبر زوجته فتتسع بينهما دائرة الخلاف وهو الذي أولاها كل الاهتمام كرمى لعيني بناته، فتثور ثائرتها وتحاول اعادته الى احضان قلبها مستخدمة كل أسلحتها النسائية من ترغيب وترهيب بالطلاق وتهديد بالانتقام، لكن هذه الوسائل لم تفلح ولم تُجد لأن أخاه الأكبر وجميع أبناء عائلته يريدون رؤية صبي له يحمل جاهه وعزه وثروته، لكن الى جانب ذلك يحرصون على وحدة عائلته وتماسكها، فالدين الحنيف يسمح بتعدد الزوجات ولا ضير في ذلك، فهو قادر مادياً على رعاية بيتين وكفايتهما، واذا أصرّت زوجته الأولى على الطلاق فلا حول ولا قوة الا بالله، فهذا الشأن شأنها.
في وسط هذه المعمعة من الأزمات والمعاناة التي يعاني منها أهل دوّار الحجر شن الطيران الاسرائيلي غارة جوية على موقع البحرية التابع للمقاومة الاسلامية الكائن بجوار حقل التينة،أحدثت دماراً كبيراً في السدود المقامة على النهر وأضراراً بالغة في المنازل والمزروعات، وأدت الى جرح المجاهد زين البستاني واختفاء والد بطل الرواية "سعيد" شقيق ناصيف وليلى، وخروج جميع الناس ومعهم المجاهدون وأهل المنطقة للتفتيش عن المفقود، استمر البحث الى آخر الليل دون جدوى، لكن الحاج ناصيف لم ييأس، توضأ وصلى ودعا الله وتوكل عليه وتسلق شجرة الصفصاف ثم نظر بين المشروعة ودوّار الحجر وكأن الله استجاب دعاءه فإذا به يلمع ظلال الجثة عالقة فصرخ بأعلى صوته سعيد عالق بدوّار الحجر، ثم يصف المؤلف دوّار الحجر والتهامه عدداً من المواطنين كان آخرهم ياسين خطيب أميرة ابنة الحاج صبحي، وكاد غرقه يتسبب بنزاعٍ عشائري لولا أن الحاج ناصيف اكتشف جثته.
بعد هذا العرض الموجز لرواية دوّار الحجر، والذي أردنا من خلاله وضعها وجهاً لوجه أمام القارئ لتبيان أهميتها وفرادتها بين الروايات التي وضعت وتناولت الأوضاع الاجتماعية والحياة والوطنية لمنطقة المؤلف ولتحديد ماهيتها، نقول انها رواية تكاد تشكل ملحمة زاخرة بالمواضيع التي يعيشها أبناء البقاع فحسب، بل كل أبناء لبنان بأسره، فالمعاناة واحدة، والهموم والمشاكل واحدة، ودوار الحجر بما ترمز اليه وناسها هم هم ذاتهم في كل قرية ومنطقة من لبنان، هاجسهم المستقبل بما يحمله لهم من مصير وغموض يملأهم خوفاً، فالزراعة متخلفة لا تكسبهم قوت يومهم، وأولادهم يسعون للعلم والمعرفة، ولا يستطيعون تأمين متطلباته فهم تحت مستوى الفقر، والناس في نزوح عن أملاكهم لتحصيل لقمة العيش، وهم الوطن وتحريره من طغمة الفساد والاحتلال الأجنبي يقض مضاجعهم، كيف لا وهم الذين يصارعون المحتل منذ قرون، والعادات والتقاليد الأصيلة التي كانت تقيهم الفتن والنزاعات العائلية والعشائرية ذهبت في مهب الريح، لقد وضع الحبل على الغارب وأفلت الذئاب من عقالها فلا أمان ولا اطمئنان ولا دولة تشجعهم على النهوض والحفاظ على كرامتهم، ولا القيم والفضائل عادت تنجدهم، إنه الحرمان بكل ما فيه من توحش واغتراب وقساوة ينتهب وجوههم، يطحنهم برحاه، ويلقي بهم في أشداق الموت، إنه دوّار الحجر الذي يبتلع كل شيء ثم يرميه جثة هامدة لا حراك فيها. إنها دورة الحياة التي لا حياة فيها، إن هذه الرواية تأريخ لعلاقة الإنسان بأرضه وتشبثه فيها، وإيمانه المطلق بأن الله هو حجر الرحمة الذي تدور عليه، وهو كذلك سجل هذا الانسان بتقاليده ومشاربه ومعتقداته ومنازعه وأحلامه التي تشتبك ببعضها البعض مشكلة نسيجه ونبضه ومطامحه بكل ما فيها من أمان وأحلام.
نعم إن هذه الرواية ملحمة الأرض والإنسان فيها تتجلى وحدة الحياة بشموليتها ولا يضيرها أن تكون رواية وصفية تناولت حياة مجتمع بأسره بكل ما فيه من تناقضات. لقد أجاد "الراوي ـ المؤلف" وبمهارة فائقة باستخدام تقنيات الرواية من خلال بطل روايته الرئيسي وربطه بأبطالها الثانويين من خلال أسلوبه الذي استخدمه لإيجاد لحمة قوية فزاد من قوة النص وبنيته ومتانة دلالاته وما تطرحه في اثارة الوعي الذي يتطلب منا التطرق الى اللغة الروائية التي تحقق انزياحاً بالنسبة للغة المقامة والمقالة التي استخدمها المؤلف في محاولة منه لجعلها تستوعب اللهجات العامية والمفردات والصيغ في الحوارات والسرد مع احتفاظها بالموقع المركزي الذي يتيح لها أن تكوّن اللغة الخاصة لمختلف أشكال التعبير عنده.
ان اللغة في الانتاج الروائي أخذت خط التوازن بعد فترة تأرجح بين القيم التقليدية والدعوات العامية، هذا الخط الذي يفرض واقع التلقي في اطار اثراء القص وتطويره وصيانته باعتباره مركز الوعي في الرواية العربية، وهذا ما زخرت به رواية دوّار الحجر ولغتها المشبعة بالبساطة والصور الجميلة والعبارات الممتلئة بالجدة والأناقة الشعرية كهذه العبارة التي يصف بها العم ناصيف "كان مسجداً مملوكي القباب يغتسل بالأمطار الخريفية اذا ما استشعر أنساً، ونورساً هائماً فوق المراكب اذا ما أحس بدفء أشعة الشمس بين جناحيه (ص28)".
ان رواية دوّار الحجر رواية جديرة بالقراء والاقتناء، فهي ثمرة لجهد مبارك لمؤلف شاب نرجو منه الكثير في مستقبله الروائي الذي ننتظر.
محمد علي المسمار
الانتقاد/قراءة ـ العدد 1156 ـ7 نيسان/أبريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018