ارشيف من : 2005-2008

ذكريات أليمة

ذكريات أليمة

ما أن هدأ القصف المدفعي… على المحاور بين المتقاتلين في مدينة بيروت.. بعد أن اشتد.. واتسع في ليلٍ أسودَ مشؤوم.. عاشته المدينة المنكوبة بحربٍ عبثية مجنونة.. جنون من أشعلها.. وصبّ الزيت على نارها… وفي صباحٍ أعقب ذلك الليل الأسود… شوهدت سيارة أجرة قديمة… تغادر الضاحية الجنوبية… يقودها رجل مسن.. تشق طريقها مسرعة نحو الجنوب… سالكة الطريق الساحلي. الذي كان يشهد زحمة سيرٍ خانقة... من النازحين.. الهاربين من القتل والحصار..‏

وقد جلست في المقعد الخلفي سيدة في أواسط العقد الرابع من العمر... تبدو عليها حالة ثراءٍ طارئ.. متواضع.. الى جانبها.. ابنها الأصغر.. تغطي وجهه امارات النعاس.. وقد اتخذ من ركبتي أمه. مخدة له.. مسلماً لنومٍ حُرم منه خلال سهرٍ طويل..‏

أما "حسن" الإبن الأكبر... فقد جلس الى جانب السائق.. صامتاً.. يتأمل أمواج البحر، تتكسر مرغمة على صخور الشاطئ... وقد أعطى لنفسه إجازة قصيرة عن التفكير..‏

فجأة.. يتسرب الى سمع هذه العائلة الصغيرة صوت السائق وقد تخلص من خوفٍ يعتريه... الان اصبحنا خارج المدينة.. "بتتذكري .. يا أم حسن قصة "ذكريات أليمة".‏

يوم سفر أبو حسن الى أميركا اللاتينية.. منذ سنواتٍ سبع.. أنا وصلتو عالمطار.. مليح اللي قوّى قلبه وسافر.. أوضاعكم المادية تحسنت بشكل ملحوظ بعد سفره.. هاالحرب الملعونة.. حرقت الأخضر واليابس.. ونسبة الفقر ارتفعت بين الناس.. بشكل رهيب.. والوطن أشبه بسفينة عمتغرق وما في حدا يحاول انقاذها..".‏

وتجيب الأم باقتضاب.. كأنها تخشى أن تكشف سراً.. "اطمئن يا عم الوطن ما رح يغرق.. أيام العزّ جايي ان شاء الله..".‏

ويتابع السائق يحادث نفسه.. "اسرائيل احتلت الجنوب... والجبل.. ودخلت بيروت... والاطراف.. منهم من يقاتل دفاعاً عن الوطن. ومنهم من ضاع في متاهات الأخطاء.. والارتهان لأعداء هذا الوطن.. بس بيقولوا المقاومة ضد قوات الغزو الاسرائيلي بلشت... قولك هيك مقاومة.. بتعطي نتيجة.." مرة ثانية.. تجيب السيدة "يا عم قول ان شاء الله..". "حسن" ما زال هادئاً، صامتاً، وصور كثيرة عن الحرب تتراءى أمام ناظره.. وقد قفزت الى ذهنه.. بعض أخبارٍ قرأها منذ أيام.. ومنها انفجار سيارة مفخخة في بيروت.. أودى بحياة عشرين مواطناً فقط ـ هكذا يقول جناب المراسل ـ بينهم أطفال صغار.. أبرياء.. وقد عثر على طفلٍ رضيع بين الحياة والموت وهو يئن.. ماما.. ماما.. ما لبث أن فارق الحياة.. بعد انتشاله..‏

وأمه المسكينة وجدت بين الركام جثة هامدة.. وعادت الى ذاكرته أرقام مذهلة لضحايا الحرب حتى الآن.. فأحس بالحيرة والتمزق..‏

أطفال.. نساء.. شباب وشيوخ.. يقتلون دون ذنبٍ اقترفوه.. يذهبون وقوداً لنار هذه الحرب الملعونة..‏

وأمراء الحرب وأسيادها.. يسرحون ويمرحون.. يقتلون.. يسرقون.. يتآمرون.. لا يحاكمهم أحد.. يبيعون أجزاء الوطن بالجملة والمفرق لمن يرغب بشرط ان يدفع أكثر.. ينشرون الرعب والحقد المذهبي.. في كل شارعٍ وزاروب.‏

ويقتلون الأبرياء على الهوية... ويجمعون ثروات طائلة ملوثة بدماء الضحايا... واستعاد الصبي الجنوبي مساء الأمس بالذات.. وكيف مرت ساعات ذلك المساء المشحون برائحة الموت والحرائق.. والدموع، وقد قضت بيروت ليلتها حزينة.. كئيبة.. يلف شوارعها المهجورة.. المسكونة بمختلف أنواع العنف.. لحن جنائزي.. تعزفه آلات الحرب والدمار.. و"زمامير" سيارات الإسعاف تنقل ضحايا زمن القتل.. زمن الرعب والجنون.. والضمائر الميتة.. العفنة.. زمن الخيانة العظمى..‏

ويسأل السائق المسنّ.. وكأنه ملّ السكوت.. "كيف أخبار الوالد يا "حسن"، أبو حسن ابن ضيعتنا وسمعته "زي المسك" كيف اخباره..".‏

"أبي بخير يا عم.. بيسلم عليك..". وعاد "حسن" ابن الخمسة عشر ربيعاً يعيش مع الذكريات.. نعم يا أبي.. ما زلت أذكر يوم سمعتك تحادث أمي.. منذ سنوات.. قبيل سفرك.. يومها لم تكن الحرب قد بدأت .. ليس هناك من حلٍ لتأمين مستقبل الأولاد.. سوى الاغتراب.. يا عزيزتي... لقد اندفع الكثيرون من اللبنانيين وخاصة الجنوبيين نحو دنيا الاغتراب الواسعة.. لن أنسى ما حييت يوم سفرك..‏

وكيف تعلقنا بك مودعين.. بكى أخي.. وبكت أمي أيضاً بعد خروجك.. وكيف غادرت هامساً وكنت أرى الدموع في عينيك.. وأحس بها تغطي وجهي... بخاطركم.. ان شاء الله سوف أبذل كل طاقتي من أجلكم..‏

ثم خاطبت أمي.. بكلمات مرتعشة.. الأولاد أمانة في عنقك يا عزيزتي ثقتي بك قوية.. كوني كما عهدتك .. وفيّة.. نقيّة..‏

وأجابت أمي.. كن مطمئناً.. وفقك الله في سفرك..‏

لقد كبر أخي يا أبي.. لم تعد كلماته مبعثرة وهو يلوك الكلام... اراه دائماً يتأمل صورتك .. ويقبلها..‏

أنا أعلم أنك لم تبخل علينا بشيء.. وأنك أصبت قسطاً وافراً من النجاح..‏

لقد وفيت بالوعد والعهد..‏

أبي.. أمي واعية.. مؤمنة.. خلوقة.. انها بالنسبة لنا ينبوع حنانٍ وايمان لا ينضب.. انا وأخي كل شيء في حياتها..‏

أبي أنا أقرأ الصحف دائماً.. وأتابع الأخبار.. وأعيش الأحداث المؤلمة التي تعصف بالوطن.. وهذا لا يلهيني عن دراستي وواجباتي.. وأمي تشجعني على ذلك.. وتصرّ على المساهمة في بناء شخصيتي من خلال تجاربها في الحياة.. أنا وأمي وأخي.. نذهب كل يوم جمعة للصلاة في الجامع..‏

أبي.. مقاومة الاحتلال الاسرائيلي.. من قبل شباب المقاومة بدأت بضراوة مع بزوغ فجرٍ جديد.. انها مقاومة عادلة ومشروعة ومدروسة.. ومع تضحيات وبطولات هذه المقاومة اطمئن يا أبي.. اني أرى غوراً ساطعاً في نهاية النفق.. يضيء الطريق نحو النصر والتحرير..‏

وتهزّ الأم ولدها "حسن" من كتفه.. ظناً منها أنه كان نائماً.. استيقظ يا ولدي نحن على وشك الوصول الى القرية... جدتك سوف تفرح وتأنس بنا..‏

ويجيب حسن: طبعاً يا أمي لأنها تعيش وحيدة بعد وفاة جدي.. ولم تشأ ترك القرية.. والبيت القديم... وذكريات الأيام الخوالي..‏

قيل.. بعد وصول العائلة الصغيرة الى القرية الجنوبية بأيام هرباً من أتون الحرب في بيروت.. وقف "حسن" بقرب شجرة تين تساقطت أوراقها جافة.. فبدت بأغصانها العارية كأنها لوحة تجريدية.. تمثل الوطن الغارق في متاهات سوداء قاتمة ولكن الى حين..‏

وقف "حسن" متسائلاً هذه المرة.. هل سيعود أبي الينا.. أم أنه سوف يأخذنا اليه، وبقي السؤال معلقاً بلا اجابة..‏

صبحي مصطفى أيوب‏

الانتقاد/ قصة قصيرة ـ العدد 1159 ـ 28 نيسان/أبريل 2006‏

2006-10-30