ارشيف من : 2005-2008
الطبيب الأديب عبد السلام العجيلي:من العادي يصنع القص الجميل
في الخامس من نيسان/ابريل، رحل الأديب السوري عبد السلام العجيلي إلى العالم الآخر، فخسرت سوريا والوطن العربي أديباً متميزاً على غير مستوى، وفي ما يأتي من سطور، نحاول أن نقدّم معرفة موجزة بهذا الراحل الكبير.
ولد العجيلي عام 1918 في مدينة "الرثّة" الواقعة على تخوم الصحراء، وعلى مقربة من ضفاف الفرات، وتلقى علومه الابتدائية في هذه المدينة والثانوية في حلب، والجامعية في جامعة دمشق، حيث درس الطب، وتخرّج فيها عام 1945، طبيباً، مارس مهنته في مدينته الرقة المحكومة بثنائية الصحراء/ الفرات.
انتخب نائباً عام 1947… وفي عام 1948، التحق بجيش الإنقاذ وحارب في فلسطين، وعاد جريحاً مهزوماً ليواصل عمله في مدينته ويكتب تجاربه، ويسافر بين حينٍ وآخر ليتعرفّ إلى العالم. ثم، وفي عام 1962، عيّن وزيراً، وتنقل بين عدة وزارات، فكان وزيراً للثقافة وللخارجية وللإعلام..
لم تطل ممارسته للسياسة، إذ سرعان ما هجرها، وتفرغ لمهنته: الطب وهوايته: القراءة والكتابة والسفر.
صدر للعجيلي أربعة وأربعون مؤلفاً، منها سبع روايات وثلاث عشرة مجموعة قصصية، وخمس مجموعات من المقالات، وديوان شعر، وثلاثة كتب عن الأسفار، وثلاثة كتب عن تجاربه الطبية، وخمس مجموعات من المحاضرات، اضافة الى كتب أخرى متنوعة الموضوعات.
وكما يبدو، كان العجيلي طبيباً، قاصّاً، روائياً، شاعراً، محاضراً، كاتب مقالة، سياسياً... وقبل ذلك، كان إنساناً لطيفاً، دمثاً، محباً للناس، مثقفاً واسع الثقافة عميقها... ولذا قيل: في الرقة ساحران: الفرات وعبد السلام العجيلي...
من الوقائع الدّالة على سعة ثقافته وحسن توظيفها أن حديثاً دار بينه وبين أديبة أسبانية كانت معجبة بعمر الخيّام. استشهدت هذه بقول الخيام: "أمس أبصرت جارنا لا يجبل الطين كيف شاء الخزّافا../ وكأني سمعت بين يديه/ صوت حي يبكي ويدعو عليه: /ويك رفقاً فأنت طين وماء...". فبيّن لها الأديب العجيلي أن الخيّام اقتبس هنا، بيت أبي العلاء المعري:
خفّف الوطء ما أظن أديم الأر
ض إلاّ من هذه الأجساد.
قدم العجيلي الى الأدب من العلم فكان الطبيب الأديب، مثله في ذلك مثل تشيخوف الروسي وموباسان الفرنسي ويوسف ادريس المصري، وكان يعتقد بأن الأدب يمكن أن ينفذ الى معرفة "مجاهيل" لم ينفذ اليها العلم فكأنه بذلك يعيد للأدب وظيفته المعرفية الأولى، عندما كان الشعر يعني العلم النافذ الى جواهر الأمور.
يقول العجيلي: "... الواقع أن الإنسان قد قطع شوطاً كبيراً في معرفة نفسه ومعرفة سلوكه، لكن ما عرفه يزال قليلاً جداً وضئيلاً أمام المغيّبات عن معرفته. حين أبيِّن عجز العلم عن ادراك قضية ما، وأشرح ذلك في قصة لي، فهذا لا يعني أنّي أطعن بقيمة العلم، لكني أريد أن ألفت النظر الى أن هناك مجاهيل لم يبلغها علمنا، وأن علينا أن نستمر في البحث لندرك حقيقة هذه المجاهيل".
في سبيل معرفة هذه "المجاهيل" كان العجيلي يعود، كما يقول "الى العادي البسيط من الناس والأفكار"، ويصنع من هذا البسيط العادي النص الذي يرقى الى مستوى العالمي، ما يؤكد أن الصدور عن الخصوصية يؤتي النص المتميز بصفات الإبداع الحقيقي... وجل ما كان يفعله العجيلي هو تمثل تجربته الحياتية وتمثيلها نصاً قصصياً رائعاً كاشفاً، وبهذا كان كاتباً ملتزماً كما يقول "إني ملتزم بالإنسان أولاً وبأمتي ثانياً... ملتزم بقوميتي من دون شوفينية أو تصلب...". وهذا النوع من الالتزام هو الالتزام الانساني النابع من الذات وليس من خارجها.
قد يفسّر هذا النوع من الالتزام ميزة يتصف بها أدب العجيلي، وهي "حلاوة" تجعل القراء، من مختلف الفئات، يقبلون عليه، وكل منهم يعتقد بأن هذا الأدب كُتب له، وهذه ميزة قلّما تميّز بها أدب ملتزم بقضايا الناس العاديين من نحوٍ أول، وباستخدام لغة فصيحة ومأخوذة من لغة الناس، وجميلة من نحوٍ ثان. يقول عن رؤيته الى هذه اللغة والى دورها السياسي الثقافي: "إني مؤمن بأني فرد من أمة واحدة، عامل الوحدة الأول فيها هذه اللغة، فليس يهون عليّ أن يضعف هذا العامل، أو يضمحل بشكل من الأشكال... أعتقد أني أساهم في رفع سويّة الثقافة الضحلة عند عامة قرائي".
نشر العجيلي أول قصة قصيرة له، وعنوانها: "بدوية" عام 1936، في مجلة الرسالة المصرية التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات، بتوقيع "ع.ع"، ثم نشر أول مجموعة قصصية وعنوانها: "بنت الساحرة" عام 1948، وقد مثلث هذه المجموعة علامة واضحة على نضج القصة القصيرة في سوريا.
وبدا واضحاً، منذ هذه البداية، أن قصص العجيلي تجمع بين ضفتين أساسيتين هما: 1 ـ التكثيف ومركزة الحدث ودلالته الكلية. 2 ـ طرافة الحكاية وحلاوتها... وهاتان الصفتان تمثلان منحى يفيد من القص الغربي الحديث، والقص العربي التراثي. وقد واصل العجيلي تأصيل هذا المنحى من القصّ في ما تلا من مراحل، فتنوع إنتاجه القصصي على مستوى الشكل، بين قصة قصيرة وقصة طويلة، ورواية، ورواية قصيرة... ما يعني أنه لم يكن يلتزم بالشكل المسبق، وانما كان يترك للتجربة التي تحدثنا عنها آنفاً أن تملي الشكل الممثل لها الناطق برؤيتها.
وإن كان لنا ان نقدم أنموذجاً دالاً يسمح به المقام فليكن رواية "المغمورون". يتحرك القصّ، في هذه الرواية، في حركة خطية ويؤديه الراوي العليم غير المستأثر بموقعه. للسرد في هذه الرواية حلاوة الحكاية، توظف في القص مختلف العناصر، من حوار ووصف وتضمين وخطاب في انتاج الدلالة الكلية، الكاشفة قضية مركزية من قضايا المجتمع، وبخاصة مجتمعنا العربي في هذه المرحلة من تاريخنا، عنوانها: "المغمورون". وقد كان الراوي حاذقاً في جعل القارئ يتابع القص بشغف وتشوّق من طريق تقنيات أجاد توظيفها اجادة تامة.
عبد المجيد زراقط
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1159 ـ 28 نيسان/أبريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018