ارشيف من : 2005-2008
محمد الماغوط، لغة الحياة: نصوص حرة
عبد المجيد زراقط
رحل، منذ أيام، الأديب السوري محمد الماغوط إلى العالم الآخر، وكان قد نال مؤخراً "جائزة سلطان العويس" تقديراً لعطائه الشعري، كان الماغوط متعدد المواهب، فهو، في المقام الأول، شاعر فريد أصدر المجموعات الشعرية الآتية: حزن في ضوء القمر، غرفة بملايين الجدران، الفرح ليس مهنتي، البدوي الأحمر، وكاتب مسرحي كبير ألف المسرحيات الآتية: العصفور الأحدب والمهرج وضيعة تشرين وغربة، وكاتب مقالة متميز، كما أنه كتب ما سُمي "الأرجوحة"، وصنفه الناشر في نوع الرواية.
في السلمية، المدينة السورية النائية، الحائرة بين الصحراء والمدينة، ولد محمد الماغوط عام 1934، في بيت يعمل صاحبه حصّاداً ـ أجيراً لدى كبار الفلاحين يقول عن مدينته: السلمية.. علمتني الحزن والسوداوية، ويضيف متحدثاً عن موقعها التاريخي وموقعه فيها: "هذه المدينة هُدمت مئة مرة، وهي معقل القرامطة والمتنبي، وعلى هذا الأساس يمكنك اعتباري فرويد الشيعة".
عاش الماغوط، في هذه المدينة، طفولة بائسة، ذاق فيها طعم الظلم الناتج عن الفوارق الاجتماعية، ما نمّى لديه حسّ الرفض والتمرد. يتذكر الشاعر، من أيام ذلك الزمان، يوماً أتى فيه إلى مدينته "أمير فارس" ليرمي، في أثناء دفن أحدهم حنطة للفقراء، فضربه الفتى المتمرد بحجر، فجلده الفارس بسوطه ضربات بقيت آثارها على الجلد الطري زمناً طويلاً، وفي النفس طوال الزمن.
وجد حسّ التمرد، في الحس الساخر المثير للمفارقات المفاجئة قريناً له في ذات الشاعر "الصادقة الساذجة"، فمضى القرينان معاً يخطان دروب عيش وشعر جديدة.
مشى الفتى خطوات التمرد الأولى، وكان في الرابعة عشرة من عمره، فخرج/ هرب من مدرسة "خرابة الزراعية" المجانية في الغوطة إلى دمشق، فاجتاز خمسة عشر كيلومتراً مشياً على الأقدام ليخرج من المؤسسة المحكومة بنظام داخلي قاسٍ إلى رحاب الحياة، ولم يعد بعد ذلك إلى المدرسة.
اقتيد إلى السجن بتهمة الانتماء إلى الحزب السوري القومي، وهو، كما يقول، لم يكن حزبياً بالمعنى المعروف، فانتماؤه، هو الفوضوي إلى حزب، كان عبارة عن سعي فتى يافع فقير إلى انتماء وحماية ودفء، يعبر بسخريته المعروفة عن موقفه بسؤالٍ يقسم ثنائية تكشف ما ينبغي الاهتمام به "فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات وتشق عباب الموج، وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقاً موحلاً طوله متران؟".
عاش في السجن تجربة فظيعة، من مكوناتها: التعذيب والرعب والذل يقول في وصف هذه التجربة: "بدلاً من أن أرى السماء رأيت الحذاء.. رأيت مستقبلي على نعل الشرطي.. وفيه تعلمت كيف أقول آه"..
وإن يكن السجن حطم أشياء في الأعماق، فإنه، من نحو أول لم يحطم الذات، رفضها وتمردها وعنادها، ومن نحو ثانٍ، كشف عن موهبة شعرية فذّة، كان الشاب السجين يسجل عذاباته ـ مذكراته على ورق "سجائر البافرا"، وعندما خرج هرّبها... واكتشف في ما بعد أن ما كتبه كان شعراً، ومن هذا الشعر قصيدة "القتل" المنشورة في مجموعة "حزن في ضوء القمر".
ثم تمت النقلة/ المنعطف في بيروت، حيث أتيح للشاعر المتمرد فيها فضاء التحقق: حرية العيش والكتابة، ففي هذه الأثناء كان تجمع شعر (يوسف الخال، أدونيس، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا..) يصدر مجلة "شعر" ويعقد خميسها النقدي... انضم الماغوط للتجمع، وسرعان ما بدا أنه مختلف... فهذا الآتي من الحياة بدأ يكتب ذاته، من دون التقيد بأي شرط خارجي، كتب لغة فريدة جعلته يمتلك الحيّز الأبرز، ويحقق الإنجاز الأهم، المتمثل في شعر جديد، مختلف، سمّاه بعضهم قصيدة نثر، وسمّى صاحبه "معلم قصيدة النثر"، والأمر في الحقيقة يحتاج الى بحث قد يطول، ونكتفي في هذا المقام بإشارات دالة.
قصيدة النثر، كما يُفهم من تنظيرات روّادها المستقاة من كتاب الباحثة الفرنسية، سوزان برنار: "قصيدة النثر" هي بناء أدبي نثري، متحرر من القواعد الشعرية، يقصد الى احكام بنائه وتجويده لينطق برؤية كلية الى العالم...
يختلف شعر الماغوط عن قصيدة النثر هذه ، فهو شعر آتٍ من الحياة، ومن تجربة ـ خبرة الذات الفردية، وليس من المفهوم التنظير، كما أنه تلقائي عفوي فطري لم يُقصد الى احكام بنائه وتجويده. أو هو الشعر يصدر من منابعه الأولى، يؤتاه ذو الموهبة الفريدة العارف، فيكون كما قال الشاعر العربي عبد الله بن رواحة "الشيء يختلج في صدورنا فتنطق به ألسنتنا".
وكما تختلف نصوص شعر الماغوط عن قصائد نثر الرواد، فإنها تختلف عمّا يُسمى اليوم "قصائد نثر"، إذ ان هذا المصطلح شاع و"عُمم" كثيراً وصار يطلق، بسبب غياب النقد وسهولة النشر وبؤس الواقع، على أي كتابة تتحرر من الوزن والقافية.
كان الماغوط، في المرحلة الأولى من مراحل تطور مسار حركة "شعر"، أحد شعراء هذه الحركة الأساسيين، وكان شعره يعد أهم إنجازاتها... لكنه، وبعد مدة من العيش وسط هذه الحركة، خرج عليها... واتهم شعراءها بـ"الحقد على كل ما يمت الى هذه البلاد وتاريخها بصلة".
وهكذا كان خروج الماغوط من "تجمع شعر" خروجاً من المؤسسة المحكومة بمشروع ثقافي غربي، من صفاته القطع مع التراث العربي ومع الواقع والاتصال بالغرب، الى الحياة الى فضاء الحرية... مواصلاً مسار الصدق الذي عُرف به، خاطبه نزار قباني مرة: "أنت أصدقنا، أصدق شعراء جيلنا".
مثل شعر الماغوط ظاهرة تتميز من ظواهر أخرى عرفها مسار الحداثة الشعرية العربية، بأنها لم تكن ترجمة أو ما يشبه الترجمة، كما أنها لم تكن تجريداً ذهنياً فكرياً، أو تلفيقاً يلملم ملوناته من مظانّ متنوعة ومختلفة.
وليس بعيداً عن الصواب القول بأن هذا الشعر الصادر عن الحياة ـ التجربة الشخصية الفريدة، لغة جميلة فريدة العائد إليها رؤية كاشفة واقعها هو شعر مقاوم على مستويي الكشف: الرؤية والبنية الشعريتين، ويمكن أن نقدم أنموذجاً من هذا الشعر يتخذ فيه الفم.. الانسان المحور الأساس.
وطني، أيها الجرس المعلق في فمي/ ايها البدوي المشعث الشعر/ هذا الفم الذي يصنع الشعر واللذة/ يجب أن يأكل، يا وطني..
ويقول الماغوط، في هذا الصدد، مميزاً شعره من نوع شعري آخر هو "الشعر المنبري":
"أنا شاعر مقاومة، ولكن ليس على طريقة الشعراء المنبريين الذين يصيحون ويصرخون: الشعر مقاومة".
الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1157ـ 14 نيسان/ ابريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018