ارشيف من : 2005-2008

"فساتين هندومة"لجواد صيداوي: بشارة الولادات الواعدة

"فساتين هندومة"لجواد صيداوي: بشارة الولادات الواعدة

الانتقاد/ العهد الثقافي ـ العدد 1138 ـ2/12/2005‏

يفيد عنوان الرواية: "فساتين هندومة" أن الفساتين هي المعنيّة وليس هندومة صاحبتها، فمن هي هندومة؟ وما حكاية فساتينها؟ وهل تروي الرواية هذه الحكاية أو حكاية أخرى؟ وكيف؟‏

هندومة فتاة فلسطينية، ولدت في "كميون" عند شفق يوم من أيام هجرة أهلها من فلسطين الى لبنان عام 1948، شعرها العقل والجسد، تهجس بوقوع الحرب ومجيء اليهود "عكل المطارح"، غدت "ملح سوق بلدة "طبرنا" حيث تدور أحداث هذه الرواية، و"مالئة دنيا طبرنا وشاغلة ناسها"، وأصبح اسمها، بالنسبة لهذه البلدة، مكتفياً بذاته كأسماء شهيرات النساء في التاريخ: كليوباترة وزنوبيا وشجرة الدر، ما ان يسمع شخص باسمها حتى تبين البسمة على شفتيه، وما ان يطلق احد خبراً من أخبارها،أو نادرة من نوادرها حتى تتلقفهما الآذان بشغف، وتتناقلها الألسن من مكان الى آخر... تقول لها أمها: "يا مجنونة أتضحكي الناس عليك!؟" فتجيب "أنا مش مجنونة، والناس ما يضحكوا عليّ أنا بضحك عليهن".‏

هذه هي هندومة أما فساتينها، فقد جاء في الرواية ان نساء الحي كنّ يعطينها فساتين بالية مقابل بعض الخدمات المنزلية، فترتدي الفساتين جميعها دفعة واحدة من دون مبالاة منها بارتفاع حرارة الطقس أو انخفاضها، أو باختلاف مقاسات الفساتين وتناقض ألوانها، فتبدو عندما تتجول، في أزقة حي القلعة، كأنها مشجب متحرك مثقل بمختلف أنواع الفساتين العتيقة (ص 47). وقد عوّقت هذه الفساتين حركتها، وهي تركض نحو البئر المهجورة، حيث خبأت غلتها التي تحتوي مدخراتها". لكنها بقيت تركض لتنقض على سارق سرّها، فتعثرت ووقعت أرضاً، ثم نهضت، وتابعت الهرولة، ثم هوت.. وكان صباح آخر غابت فيه هندومة عن شرايين طبرنا وأزقة العقول، واستمر "الغور" حلم جدها ينأى ويمعن نأياً، في حين راود بعض شبان المخيم شعور حزين بالارتياح (ص189).‏

هندومة، كما يبدو، شخصية مختلفة بمختلف مكوّناتها، ومن هذه المكونات فساتينها، وقد اتخذت ذلك الموقع الذي بينته الرواية في مجتمع طبرنا، ويمكن ان تمثل شخصية روائية انموذجية، تنطق بهاجس الجماعة، اذ انها كانت تردد دائماً: اليهود آتون الى كل مطرح وقد أتوا فعلاً، وبعد أن هوت، ما يعيد الى الأذهان شخصية زرقاء اليمامة. كما أنها يمكن ان تشير الى ما خلفته نكبة الـ48 من تشوه يمثل مشجباً متنقلاً من نحو أول، ونظرات كاشفة للحقائق من نحو ثانٍ، وقد هوى هذا التشوه لينبثق صباح جديد راود شبان المخيم، طلائع المقاومة، فيه شعور حزين بالارتياح.‏

وفساتينها تثير مدلولات منها، أولاً، ثنائية طرفها الاول الفرح بالفساتين عند أخذها وارتدائها، وطرفها الثاني لعنة هذا الشعور عندما عوّقت هذه الفساتين حركة السعي الى العلبة السر، ما أفضى الى الهاوية، وثانياً أن هذه الفساتين جعلت من هندومة مشجباً يتحرك وسط الناس، يرمون عليه ثيابهم البالية، وتعلق عليه همومهم، اذ ما إن يذكر اسمها حتى تبين البسمات على الشفاه، كما أنها غدت مصدر أخبار ونوادر وحكايات: ان تكن هذه هي هندومة وهذه هي فساتينها كما يبدو في ثنايا الرواية، فإن الرواية لم تجعل ذلك محوراً أساساً لها، اذ انها تتضمن حكايا كثيرة لأناسٍ يصدق عليهم وصف أسعد رضوان الآتي:‏

"ليست هندومة الوحيدة في هذه البلدة التي لا تعي ما تقول وما تفعل، وإن كانت قد تميزت منهم، فبأن شهرتها عمت وأخبارها طغت". فحكاية هندومة تندرج في مسار حكايات هؤلاء الناس، فضاعت فرصة تأصيل أنموذج روائي يمثل ما أشرنا اليه قبل قليل، وذلك من أجل تشكيل مسار حكائي.‏

تروي الرواية سير شخصياتها وأخبارها بوصفها مادة تندر والراوي يصرح بذلك، فنقرأ على سبيل المثال قوله: "وقد وجدت طبرنا بأسرها، في تلك الحادثة، يومذاك مادة للتندر والتسلية، ألهبت الناس طوال يومهم" (ص48). وقد انتظمت مادة التندر هذه في مسار حكائي قوامه أخبار أناس غير سويين بما في ذلك أخبار هندومة وفساتينها، ما يعيد الى الأذهان كتب القصص التراثية العربية التي كانت تروي أخبار أناس مختلفين، وان كان من فارقٍ هنا فهو محاولة المؤلف نظم هذه الأخبار في سياق روائي تشكله رؤية تتمثل الواقع وتمثله في شكل يفيد، واعياً أو لا واعٍ من التراثين القصصيين: القديم والحديث.‏

في سبيل تبين هذه الرؤية نسأل: هل تخلو طبرنا من شخصيات سوية؟ ثم ألم تحدث في طبرنا أحداث أخرى سوى هذه التي تمثل مادة تندر؟ قد تكون في طبرنا شخصيات أخرى، وقد تكون حدثت وقائع اخرى، ولكن الراوي رأى الى البلدة من زاوية اختارها ومن منظور تبناه، وهو منظور يبدو واضحاً منذ بداية الراوية، ثم يتكرر فيكاد يكون لازمة تكشف رؤية الراوي الى البلدة، وهي الرؤية التي كانت الأساس في اختيار مادة الرواية وقائع وشخصيات، وتشكيلها في بنية تتجاور فيها سير شخصيات الرواية وأخبارها ملخصة في الغالب كما ذكرنا قبل قليل وكما يفيد هذا الاقتباس:‏

"تعبر الشهور والسنون طبرنا خفافاً، لا أحداث ذات أهمية تثقل الزمن، أو تكسبه معنى جديداً، خرج عبود نعمان من السجن بعد خمس سنوات فقط، علاوة على دلالة هذا الاقتباس على استخدام تقنية التلخيص، فإنه يدل على منظور الراوي الذي أشرنا اليه قبل قليل، فالشهور والسنون تعبر طبرنا خفافاً، لا أحداث ذات أهمية تثقل الزمن أو تكسبه معنى جديداً... وهذا المنظور واضح منذ بداية الرواية، ففي الصفحة الأولى للرواية نقرأ:‏

"مع بداية نهار من نهارات طبرنا المتشابهة مثل حبات السبّحة السوداء" في تشبيه نهارات طبرنا بحبات السبحة السوداء ما يتجاوز التشابه بين النهارات وحبات السبحة الدال على فقد الجديد الى السواد بوصفه مناخاً قد يفيد هذا المعجم اللغوي المأخوذ من الصفحة الاولى أيضاً، في تشكيل حقل دلالة بيّن:‏

ـ السوداء، مزبلة، النفايات، ركود، يأس..‏

ثم يتكرر ذلك كله في غير موضع، ومن نماذج ذلك نذكر:‏

"تعبر الشهور فضاء طبرنا مثلما تعبره طيور البجع، مخلفة بعض النثار من سلحها المبارك على شرفات المنازل، وعلى الأغصان والنباتات، حيث تحط لكي ترتاح أو تطعم"(ص109).‏

فأي زمن هو زمن طبرنا، أو "سدوم العصر" كما يصفها الراوي على لسان الشيخ عبد الله؟ وأي آثار يترك في أمكنتها؟ انه يترك "السلح المبارك" فتتراكم النفايات وتكبر المزبلة..‏

ويتكرر ما يدل على هذا المنظور تكراراً يكاد يمثل لازمة، فالراوي علاوة على تدخله المباشر (راجع ص 11 و42 و51 على سبيل المثال)، لا ينفك يكرر ان الشمس تشرق على طبرنا كل صباح.. تشرق على المجانين والعقلاء، على المرضى وعلى الأصحاء... على شجيرات الورد في جنينة مسعودة الشركسية، وعلى الأشجار الباسقة في مقبرة طبرنا والدائمة الخضرة لأنها تغتذي بعصارة الموت... وتواصل تأدية مهمتها غير عائبة، وتدأب في صنع الأيام، وتدأب في صنع البشر وإفنائهم من دون معنى واضح أو هدف معلوم... انهم البشر الذين وجدوا في غفلة من العدم على سطح هذا الكوكب الذي يسمى الأرض... فتناسلوا وتكاثروا من دون ان يهتدوا، طوال السنين من وجودهم، الى نمطٍ سليم من التعارف والتعايش في ما بينهم...‏

ليس من شكّ في أن هذا الكلام خطاب مباشر، يقول أولاً ان الشمس لا تميز بين الناس، الناس هم الذين يختلفون... وهذا يذكّر بأغنية لفيروز تؤدي القول بجمالية تتمثل في ثنائية طرفها الأول: بيضوّي عالناس، وطرفها الثاني: والناس بيتقاتلوا، تقول الأغنية: القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلوا... ويقول ثانياً: ان الشمس لا تعبأ بالناس، وهي تؤدي مهمتها في صنع الأيام، وثالثاً ان ليس من معنى واضح وهدف معلوم للبشر الذين وجدوا من العدم، ورابعاً ان الناس لم يتمكنوا طوال وجودهم من الاهتداء الى اقامة نظام سليم يتيح لهم التعارف والتعايش، وخامساً أن ليس من جديد ذي أهمية يحدث في طبرنا..‏

والسؤال الذي يطرح هنا هو:‏

هل هذا الخطاب هو الذي كوّن منظوراً روائياً لم يُرضِ طبرنا سوى ما رآه وتمثله ومثله في هذه الرواية؟‏

قد يكون هذا صحيحاً... لكن الرواية تنتهي بأن الغور حلم الجد ينأى، ويمعن نأياً، لولا أن بعض شبان المخيم، طلائع العمل الفدائي آنذاك، يراودهم شعور حزين بالارتياح.‏

هل يعني هذا ان هذا الشعور لدى الشباب قد يجعل الشهور والسنين تعبر ليس كما البجع، وانما كالهدهد لترمي ليس "السلح المبارك" وانما البشارة بولادات جديدة غير شهواء؟‏

أفادت الوقائع ان ولادات حدثت لكنها وئدت، وما زال البجع يمر زرافات بعدما كان وحداناً..‏

عبد المجيد زراقط‏

2006-10-30