ارشيف من : 2005-2008

الديمقراطية…

الديمقراطية…

محمد علي المسمار‏

لن يكون باستطاعة العرب والمسلمين، بناء مجتمعات ديمقراطية في مواجهة الظروف والمصاعب التي تمر فيها بلدانهم في ظل الهجمة الشرسة التي تستهدفهم على أيدي السلطات المحلية والغربية. فالديمقراطية التي يرفعون شعاراتها لن تهبط عليهم من السماء بمجرد أن ينادي بها كوكبة من المتعلمين والمثقفين وأشباه ذلك من المنظرين وعباقرة المتكلمين وخطباء المنابر، ذلك لأن الديمقراطية نتيجة فعل جهادي نضالي تمارسه أغلبية أبناء المجتمع وجماهيره على أرض الواقع، أغلبية مدركة لمصلحتها ومصلحة شعوبها كشرط أساسي لتحقيق هذا المطلب. أما الشرط الثاني الذي يجب أن يتوافر لها فهو قدرتها وتصميمها على مواجهة المصاعب والظروف التي ستنتج عن هذه المواجهة، وتداعياتها وآلياتها المتمثلة بالقوى المعادية للتغيير، ومخططاتها العاملة على استغلال الشعوب واستعبادها وضرب تطلعاتها في الحرية والاستقلال والتقدم، والمتمثلة بالغرب الاستعماري وضائعة بزعامة الولايات المتحدة.‏

ودون ذلك تبقى أماني وطموحات تضع العربة أمام الحصان. أما الشرط الثالث لعملية التغيير فهو تفعيل مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب والاتحادات وبقية المؤسسات الأخرى التي يجب أن تتوافر فيها ارادة الفعل الجماعي لصيانة مكتسبات مجتمعاتها وحمايتها والدفاع عنها والتضحية ضد كل من تسول له نفسه التعرض لها واستهدافها دون خوف أو وجل أو تردد، لأنها تستلزم البذل والفداء لصيانتها وحفظ استمراريتها. فالديمقراطية "ثمرة الفعل الجماعي ولا وجود لها بغيره، أما الديمقراطية التي تأتي من الخارج نتيجة التدخل العسكري الغربي تحت رايات الجيوش والفيالق الغربية المنتصرة باعتداءاتها وقهرها للشعوب، فلا تعتبر ثمرة للفعل الجماعي الجهادي والنضالي الذي تخوضه الشعوب المقهورة والمظلومة، ولن تكون البلسم الشافي لأمراض هذه المجتمعات، لأن المعاناة والأمراض وإشكالياتها تشكل الوجه الآخر لاستراتيجية الغرب الاجرامية وسياسته الخرقاء التي يمارسها لاستغلال الشعوب المستضعفة ونهب ثرواتها، ولا يمكن لهذا الغرب الاستعماري وقيادته الاميركية المجرمة أن يسعى لخلق أوضاع تتناقض مع مصالحه ومكتسباته وهيمنته.‏

إن الإرث الاستعماري الغربي وسياسته التبشيرية بالديمقراطية وحقوق الانسان والقيم الانسانية لا تعدو كونها شعارات جوفاء أو برق خلّب ليخطف بها أبصار وعقول المستضعفين المقهورين لإلهائهم وتفريغ قدراتهم في المواجهات التي يخوضونها ضد أعداء الإنسانية وقيمها الحقيقية. فلنسمع جارنر" أول حاكم عسكري اميركي للعراق بوقاحته الاميركية المعهودة يبشر العراقيين بالديمقراطية وحقوق الانسان في الوقت الذي يحتل بلادهم بالقوة ويخضعها لمشيئة بلاده بارتكاب المجازر والتدمير والقمع، أو فلنسمع غيره وغيره من القادة ورجال الحكم.. وما يقولون في خطبهم عن الديمقراطية وحقوق الانسان. فالديمقراطية الهِبَة بإشكاليتها تأتينا مع الغزو العسكري، وتداعياتها ليست فقط بإشكاليتها، بل بالحقيقة التي تكشف أن الغرب واميركا معه لا يريدونها أسلوباً أو نهجاً في الحكم، بل غربلة للإرث الثقافي والحضاري لمجتمعاتنا العربية والاسلامية تمهيداً لإلغاء قيمنا وتراثنا الفاعل والباني والمحصن والمفعل لقوتنا ولقدرتنا على الصمود والتصدي والتقدم والارتقاء والنهوض لتشييد مستقبل زاهر لأجيالنا الطامحة الى الحرية والاستقلال والتقدم، والإسهام في اعلاء صرح الإنسانية وحضارتها السمحاء القائمة على ما تبشر به الرسالات السماوية وقادتها العظام.‏

أما سعيها الآخر الذي تسعى اليه اليه وتبذل كل ما في وسعها لترسيخه فهو تكريس ما هو غث من القيم الدخيلة الداعية الى تبسيط العزائم وزرع الاتكالية والتفرقة والفوضى والتجزئة والانقسامات والتخاذل والجبن وغيرها وغيرها... وإدخالها في مناهجنا التعليمية وطرق تنشئتنا ونفوس نشَأتنا، وغرس عادات وسلوكيات وتصورات ورؤى للعالم كما تريده هي لا كما نريد نحن. وبمعنى آخر تريد صياغة هوية جديدة لمجتمعاتنا وشعوبنا الاسلامية بعيدة عن حقيقتها وقيمها وحضارتها. هذا ما تضافرت عليه جهود الغرب الاستعماري والحكام التابعين له منذ بدايات تحركه الهادف للسيطرة على العالم لتكريس زعامته، لكن شعوبنا الأبية ومجاهديها وقادتها العظام مستمرون وبعون من الله في التصدي لهذه المشاريع وإفشالها، وعدم تمكين أعداء الانسانية مهما اشتدت مؤامراتهم وهجماتهم وشراستهم لتكريس أمر واقع كهذا الذي يسعون اليه من خلال ديمقراطيتهم الكاذبة. لقد واجهت وتواجه، وفي هذا الوقت بالذات، الديمقراطية التي يريد الغرب اهداءها لنا، وفي ظل اشتراطات العولمة حسب المفهوم الغربي الاميركي، مشكلتها الحقيقية، اذ ان مجتمعاتنا الاسلامية والعربية واكثرية دولها لن تتخلى عن دورها للشركات المتعددة الجنسية وللمؤسسات المالية والاقتصادية وللمنظمات الدولية، ولن تسمح لهذه الديمقراطية الزائفة وأصحابها بابتلاعها، وهذا ما تشهد به تجارب الشعوب النضالية والجهادية التي وقفت بالرغم من عظم التضحيات في وجه العولمة وسادتها ومخططاتهم، وهذا ما يشهده العالم الآن من تراجع وتقهقر للعولمة، نتيجة المواقف المشرفة لشعوبنا العربية والاسلامية وأصدقائهم في العالم التي ترفض الهيمنة وديمقراطيتها ومركزيتها، ولهذا فإن المراهنة على الغزو العربي وترياقه الذي يعدنا ويمنّينا بخير ديمقراطيته التي يريد أن يهبها لنا، وانتظار الفرج على يده من خلالها، هو انتظار في غير محله، ونحن بغنى عن هذا الفرج وعن ديمقراطيته وانتظارها الموبوء بالحقد والإجرام والخراب والاستعباد والاستغلال والفساد اللاأخلاقي. فلنا ديمقراطيتنا التي نعرف كيف نعلي صروحها على هدي قيمنا وأخلاقنا ومبادئنا الإنسانية.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1159 ـ 28 نيسان/أبريل 2006‏

2006-10-30