ارشيف من : 2005-2008

تجليات الخط العربي:امتزاج الخط بالروح

تجليات الخط العربي:امتزاج الخط بالروح

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1137 ـ 25/11/2005‏

للخط العربي تجليات عديدة، منها الجمالي ومنها الروحي ومنها التاريخي، وهو عنوان رقي لحضارة الاسلام، فكان خير رسول للفكر الاسلامي باحتوائه للمعنى والشكل في آن.‏

وبين تعدد أنواع وأسماء الخطوط تظهر التركيبات والخصوصيات الملتصقة لكل خط، فالرقعة والتعليق والنسخ تتحلى بخطوط مبسطة التركيب، أما الثلث الجلي وجلي الديواني فهما أقرب الى التعقيد التركيبي، في حين يتميز خط الثلث بجمعه بين المبسط والمركّب، وهو أكثر الخطوط العربية امكانية لاستيعاب الأهواء المختلفة والأمزجة المتعددة في التركيبات الفنية.‏

"اقرأ"‏

هناك إجماع على أن أصل كتابتنا العربية الموثقة أثرياً هو الخط النبطي المتطور عن الخط الآرامي المنحدرين من الفرع السامي الشمالي.‏

ويمكن اعتبار أن الحضارة العربية هي آخر الحضارات المكتوبة، فقد كانت الحضارات التي بناها الساميون بعد السومريين حضارات عمرانية لا ثقافية، ومثلها حضارات الفرس واليمن، وكانت الحضارة الاسلامية أكبر الحضارات المثقفة التي مهدت لحضارة العصر الحديث. فعلى الرغم من كون اليونان والرومان حضارات مثقفة أيضاً فإنها لم تترك هذا الكم من المدونات، ولهذا أسباب تقف من ورائها العقيدة، وخطابها وتعاليمها.‏

مع كلمة "اقرأ" في باكورة النصوص القرآنية، انعكس المشهد الصحراوي نحو غزارة معرفية، وسّعت المنتج الثقافي الاسلامي، وذلك يمكن ان يكون من وراء تكريس المنحى العمومي للثقافة وليس لخاصتها، أي نبذ ما نسميه اليوم بثقافة الصفوة، التي مارستها حضارات كثيرة سابقة ولاحقة لها.‏

وانتشر الخط العربي للحاجة اليه في كتابه الوحي والرسائل التي كان يرسلها النبي (ص) الى الملوك والأمراء.‏

الخط والتصوف‏

يربط الخطاط عدنان الشيخ عثمان بين الخط والتصوف فهو يقول "يبلغ المرء بالصدق منازل الكبار"، والصدق هو جوهر التصوف، اذ ان التصوف سلوك صادق في علاقة العبد بربه لينقطع بكليته عن كل ما سواه، اخلاصاً وتفانياً وتجرداً من الواقع الملموس تطلعاً الى المطلق المنشود. والخطاط المبدع هو إنسان صادق الانقطاع الى فنه السامي، حين يحاول التجرد من واقعه المادي الثخين ليرفرف بفلسفة مداده في سماوات اللطف الروحي، ويعرف بجرة قصبته ـ عند احتباس أنفاسه ـ الطريق الى الله. فاختيار الخطاط المبدع لنص العمل الذي يشرع في كتابته انما هو تعبير عن الحالة الوجدانية التي يمر بها من فرح غامر أو حزن عميق أو حالة بين الفرح والحزن، أو حالة انبهار بجمال ما يمرّ أمام ناظريه، أو حالة قهر مطبق لسبب أو لغيره، أو حالة استمتاع بحكمة تأملية تكون مصداقاً لوضع اجتماعي في تناغم مذهل، وتتجلى فيه قوة القلم وجودة المداد المستمدة من النفحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع في لحظة ابداع فني فلسفي لا تتكرر.‏

اختزال‏

امتد التأثير العربي على الفن الغربي عبر المعاهد التي تأسست في البلاد العربية على يد الغرب، فالباحث اليوناني الكسندر بابا دوبولو كتب "ان الخط العربي فن رائد وأساسي وذلك على عكس موقع الخطوط لدى العديد من الشعوب الأخرى". والخط العربي هو "أيقونة العرب والمسلمين" كما يقول الباحث تيتوس بوركهارت، ويشرح المستشرق ريتر، استاذ اللغات الشرقية في جامعة اسطنبول، وهو من الاساتذة المخضرمين الذين حضروا وحاضروا في العهدين العثماني والكمالي: "ان الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أتلو عليهم من محاضرات بسرعة فائقة، لأن الحرف العربي اختزالي بطبيعته، أما اليوم فإن الطلاب يكتبون بالحرف اللاتيني، ولذلك فهم يطلبون مني أن أعيد عليهم العبارات مراراً، إنهم معذورون ولا شك فيما يطلبون، لأن الكتابة اللاتينية لا اختزال فيها، فلا بد من كتابة الحروف بتمامها".‏

أما الناقد روبير غرينا فيقول: "أصبحت الكتابة تخفق فيها الحياة وتصبح أكثر طراوة أو أشد صلابة، تركض في سطورها المتساوقة أو تتشكل في قوالبها الهندسية، ما يمكن للخط الكوفي ان يتخذ ألف شكل وشكل وأن يعطي دلالات جديدة لأساليب عديدة للوصول الى أن تصبح ضرباً من المستحيل، وتصير الوظيفة عملية تأملية أو تربوية قريبة من الصلاة". ويقول المؤرخ الانكليزي ارنولدتويني: "لقد انطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن غازياً ومعلماً مع الجيوش الفاتحة الى الممالك المجاورة والبعيدة، وأينما حل أباد خطوط الأمم المغلوبة". والشهادات بهذا الخط وجماليته لا تنتهي عند كل متابع متخصص، لكن التركيز على آراء غربية في أكثر الكتب والدراسات والمحاضرات التي تتناول الخط العربي مرده الى شيء من الاستلاب المغلف بالثقة بكل ما هو غربي حيث الصورة الاكاديمية والموضوعية هي الطاغية على الظاهر، علماً أن المنطلقات الغربية ذاتها عمدت الى تشويه صورة الشرق وتحديداً العربي والاسلامي في أكثر النتاج الاستشراقي الفني والأدبي والتاريخي والسياسي، وعلماً أن التاريخ يحفل بأقوال بحق الخط قالها الرسول (ص) والامام علي (ع) وبعض من الصحابة ومن ثم الشعراء الذين كانوا يشبهون محاسن الوجه بأنواع الحروف العربية، فشبهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين والوجه بالواو والفم بالميم والصاد والثنايا بالسين.‏

والآن ومع الكثير من المحاولات الجادة من ايران وتركيا ومصر وسوريا للحفاظ على الخط كفن وصنعة تشبك الحاضر بالماضي، تبقى للخط مشاكله الكبرى حيث حل الكمبيوتر مكان القصبة، فكان الانتشار والسرعة انما على حساب الكثير من الشروط الجمالية.‏

عبد الحليم حمود‏

2006-10-30