ارشيف من : 2005-2008
المضامير العلوية: المجلِّي وبلوغه الغاية القصوى
الانتقاد/ قراءة في كتاب ـ العدد 1137 ـ 25/11/2005
"عرف الولاء"*
هو الجزء الأول من ديوان الشاعر العلامة الحجة الشيخ عبد الحسين صادق (1862 ـ 1942) في طبعته الجديدة، جمع وتقديم وتحقيق الاستاذ حبيب صادق، نجل الشاعر، وموضوع القصائد الشعرية جميعها في الديوان مرصود بكامله للخطاب الديني ومشتقاته.
ومن القصائد التي يتضمنها الديوان "المضامير العلوية"، وهي مطوّلة شعرية عدد أبياتها ثلاثمئة وثمانية وعشرون بيتاً، نشرت من قبل في كتاب مستقل عنوانه "المضامير"، وفي الجزء الثاني من ديوان الشاعر المسمّى "عرف الولاء" في طبعته الأولى.
"المضامير" لغةً، ميادين السباق، في هذه الميادين تعدو الخيل الفنية، ويبلغ الغاية القصوى مجلِّيها. قد نقول: هذا تقرير لحقيقة معروفة. لكن ما يلفت في هذا التقرير أمران: أولهما ان المجلِّي ليس من يحرز السبق، وانما من يبلغ الغاية القصوى، ما يثير سؤالاً مفاده: ما هي هذه الغاية القصوى؟ نتوقع أن تجيب قراءة القصيدة عن هذا السؤال. وثانيهما أن المجلِّي هو من يحرز تلك الغاية في مضامير السعي الى رضوان الله تعالى. هذه هي المضامير المعنية، ما يعيد صياغة السؤال: ما هي الغاية القصوى في هذه الميادين؟
يبدو واضحاً أن الكلام على مضامير ـ ميادين سباق الخيل يأتي على سبيل التمثيل الكاشف للحقيقة حسياً، ولهذا تأتي الأبيات لتؤدي هذه الوظيفة، وهي جعل الحقيقة صورة محسوسة نراها أمامنا وتدركها حواسنا... فنتبين تميز المجلّي البالغ الغاية القصوى، اذ ليس كل من امتطى جواداً ببالغ هذه الغاية، وان بدت الهجن جارية جري النجب، فإنها لن تصل لأنها لم تخلق لسابقةٍ ولا لحلبة مضمار..
تتيح لنا قراءة "عرف الولاء" ان نجيب عن السؤال الذي بدأنا به الكلام، فما سبق التنقيب عنه هو الغاية القصوى التي يبلغها المجلّي.. بدأت نفحة من روح الله سبحانه تعالى وتجلت اختياراً من لدنه جلّ وعلا، وتمثلت انساناً متميزاً متفرداً بلغ مرتبة الكمال، الغاية القصوى في مختلف المجالات، فكانت له الولاية/الخلافة التي كان سلبها له من أدهى الدواهي.. لذا فلنبايع له، لمن ترضي سياسته البرايا والاله معاً... وان لم يكن موجوداً بوصفه شخصاً فقواعد منهجه موجودة، ولن يفنيها الدهر...
وفي تقديري ان هذه الرؤية نهضوية، اذ تقدّم أنموذجاً للحكم وللسياسة في عصر كان البحث فيه قائماً من أجل الوصول الى نظام حكم ينهض بالأمة.
وان كنا قد أشرنا في ثنايا القراءة، الى بعض المزايا الشعرية فإننا نحاول في ما يأتي تركيز أبرز هذه المزايا مقدمين بعض النماذج الدالة:
البناء المتماسك
هذه المطولة الشعرية ذات بناء متماسك تنتظم فيه المكوّنات في نظام ينطق بالدلالة الكلية، فكما رأينا تمضي حركة تشكّل النص من مقدمة تفضي الى اقتناع يؤدي الى اتخاذ قرار بالسعي الى المعرفة، والتنقيب عن الغاية القصوى التي يبلغها المجلّي، ويبدأ هذا التنقيب في غير مجال: الدين، التاريخ، المزايا الشخصية، السياسة... ما يفضي الى تحصيل المعرفة التي تتيح التمييز، من نحو أول، والى تبين الغاية القصوى من نحوٍ ثان.
الخطاب العقلي:
يتوجه الشاعر الى المتلقي بخطاب شعري يوظف الاستدلال العقلي والاستقرار وتقديم البراهين، والشواهد الحسيّة الملموسة، وقد أشرنا الى ذلك في غير موضع من هذه القراءة.
الثنائيات المتضادة المقارنة: يتأمل الشاعر الحياة والطبيعة، ويأخذ منهما مادة يوظفها في بناء خطابه الشعري، ويلاحظ أنه يقيم من هذه المادة مشاهد وصوراً حسيّة دالة، فالمتلقّي يتبين ما يميز: المرجان المنتقى واللآلئ من لماع القلادة، والماء من ماء العذيب، القمري الغريد من الطير، ونبي الله موسى من السحرة.
تنوع الخطاب:
ينوع الشاعر الخطاب ليوصل نصه الى النطق بالدلالة، ففي المقدمة على سبيل المثال الخطاب الشعري يأتي وفاقاً للنسق، خبر فنفي فخب،ر فأمر فافتراض فنفي فأمر فنفي فخبر.. ما يفضي الى خبر يجري مجرى المثل.
توظيف المخزون التراثي: الديني والشعري ـ الأدبي والتاريخي
ومن نماذج ذلك اجادة توظيف المثل:
ما كل راكب رأسٍ حائزاً سبقاً
كلا ولا كل معطي القوس باريها
وإجادة توظيف القصص القرآني في ثنائية السحرة/ موسى، وتتكرر هذه الافادة من التراث وقصصه ورموزه في شعر الشيخ، ونأخذ مثلاً يفيد من التراث الشعري يقول الشاعر في قصيدة "الوصول" التي يتحدث فيها عن سفره نحو الله:
... نحوك كم مرحلة من سني
عمري طواها سفري المتعب
فلم يزدني السير الا نوى
وما انقضى الفتح ولا السبب
لا أتنبأ أنني واصل
فالمتنبي شاعر يكذب
هذه الإشارة الى المتنبي تورية بالغة الدلالة، وفيها تفنن بديعي يوظف التراث ورموزه، وما ذكرناه مثال فحسب ففي المطولة، توظيف لآيات القرآن الكريم والحديث الشريف، ووقائع التاريخ ورموزه..
البديع: يجدد الشاعر أبياته، ويلاحظ التقسيم: الفج والسبب في الأبيات أعلاه، وللنماذج الدالة على التجويد كثيرة على سبيل المثال:
يغري الرقاب ويغريها الذئاب فلا
ينفك عن وصف فاريها وقاريها
فالقد والقط الا من مفصلها
والقسط والعدل الا من مثانيها
في حرب ناكثةٍ عهداً وقاسطةٍ
بغياً، ومارقةٍ عن دين باريها
لله سورته لله غضبته
لله شدتها لله قاسيها
الصورة: مرّ، في ثنايا القراءة، من النماذج الشعرية ما يفيد بإجادة الشاعر للصورة الشعرية، ويمكن ان نتبين ذلك من خلال بعض النماذج:
ـ يرى تبخر الفلا ماء يبص وما المرئي الا بطون من أفاعيها
فهذا البيت يقدم مشهداً للباحث عن الماء في القفر يحسب أنه يرى ماءً، وفي الحقيقة ان ما يراه هو بطون أفاعٍ، ويلي البيت التالي الذي يؤكد هذا الخداع أو التوهم، عندما يحسب أنه يرى زهراً، وفي الحقيقة ان ما يراه هو حرابي البيداء..
ونقرأ هذا البيت:
لا تغرق النزع مدحاً بالألى سلفوا
ما كلهم طاهر الأبراد ناقيها
ففيه كناية تفيد من التراث، إذ إن "لا تغرق النزع" تحيل الى بلوغ منتهى القوس لرمي السهم.
المعجم اللغوي: معجم الشاعر اللغوي قديم، مصدره الذاكرة الشعرية وليس الحياة اليومية، ويلاحظ ان لغة المقدمة تختلف عن لغة باقي أجزاء القصيدة، اذ ان لغة هذه الأجزاء متداولة، وتقرب من لغة الحياة اليومية للوسط الذي ينتمي اليه الشاعر، وهذا أمر طبيعي فالشاعر كان ينظم قصائده في مناخ شعري احيائي نهضوي تبرز فيه مهمة الاحياء من طريق العودة الى الأصول والنماذج الشعرية إبان عصور الازدهار بوصفها المهمة الأساس.
الرموز: يصوغ الشاعر تركيبات لغوية تختزن دلالات كاشفة، ومن ذلك "الذبح" قصة اسماعيل، طاعة الله سبحانه وتعالى، "دعوة الانذار"، دعوة النبي (ص) لعشيرته الى المأدبة ودعوتهم للاسلام "وأنذر عشيرتك الأقربين" الخ.."الشمس" ضوء الامام "البروج" فضائله. كما أنه يستخدم أسماءً وألقاباً تاريخية دينية ويفيد من دلالتها والأمثلة عن ذلك كثيرة منها: القدح العلى، العذيب، سوّد العرب، "من قال باسم الله مجريها ومرسيها"، ساقي الحجيجي.
وفي الختام يمكن ان نشير الى القافية "يها" وهي نداء الى المتلقي يدعوه الى التنقيب تنادي بـ"تنبه: هـ" وتعلو بالنداء ليصبح دعوة: ها لرؤية المجلِّي البالغ الغاية القصوى والتنقيب عنه وعن غايته.
عبد المجيد زراقط
* عرف الولاء: جمع وتقديم وتحقيق حبيب صادق ـ بيروت ـ مؤسسة الانتشار العربي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018