ارشيف من : 2005-2008

الشاهد

الشاهد

بقلم صبحي مصطفى ايوب‏

بين نهاية صيفٍ وبداية خريفٍ .. كانت له زيارة قصيرة لقريته الجنوبية... زيارة خاطفة.. وجد نفسه خلالها معذبة حائرة توشك على الرحيل.. مع أول عاصفةٍ خريفية..‏

تذكّر ما حدث له البارحة على "المعبر المسلح".. المؤدي الى قريته داخل الشريط المحتل من أرض الوطن.. طلبوا منه تذكرة الهوية.. قرأوا الإسم عرفوا المذهب.. تأملوا الصورة.. وعلّق أحد المسلحين العملاء بسذاجة. بالصورة بعدك شاب.. وبالواقع "ختيار" تفضل ادخل.. وتخلّص من هذه الصورة.. لا تنس.. حذار أن تلتفت خلفك...‏

عبر الرجل الستيني الحاجز عبوراً ذليلاً.. كانت خطواته ثقيلة ونبضات قلبه مضطربة انفعالاً وليس خوفاً... وجرح بليغ ينزف في داخله ونقمة عارمة ضد كل ما هو قائم فوق أرض الوطن تلف كيانه.. كلمات كثيرة بقيت في داخله.. لم تخترق سمع أحد على المعبر الملعون.. كلمات ولدت ميتة وسط هذه الأجواء المشحونة المرعبة... الملوثة بشتى ألوان الخيانة من قبل المتعاملين مع العدو الاسرائيلي...‏

وكانت لحظات قاسية تمثلت خلالها أمام ناظريه جميع افرازات الحرب اللبنانية العبثية داخل الوطن..‏

فابتسم ابتسامة حزينة. ومضى يبحث عن سيارة تقله الى قريته..‏

سأله السائق. الى أين يا حضرة... أجابه بمرارة.. الى القرية إياها.. ثم حادث نفسه.. الى قريتي التي لم أزرها منذ سنوات..‏

عملي في احدى دور النشر في بيروت، لا يسمح لي بزيارة القرية الا نادراً..‏

ويستطرد السائق العجوز برأفةٍ واضحة.. أهلاً بك من جديد.. يبدو أنك متعب.. و"منرفز".. بدّك تطوّل بالك.. الجماعة أعصابهم تلفانة.. "خايفين" .. مرعوبين .. "بيفرجها الله".. الأوضاع صعبة. ومعقدة.. ونهايتهم السوداء محتومة..‏

وبدقة متناهية.. تأمل القادم من بيروت.. وجه السائق من خلال المرآة.. وقد اختار لنفسه المقعد الخلفي من السيارة.. وكاد أن يصرخ.. أسكت.. أنت خبيث.. وخبيث جداً.. ووجهك شيطاني.. أنت "منهم وفيهم".. عميل.. ولكنه لم يغفل..‏

وعاد يلوم نفسه.. على هذا الاحساس.. وقد هدأت ثورته بعض الشيء.. فلربما ظلم الرجل بظنونه.. والظلم حرام..‏

وخيّل اليه أن السائق يهمس.. أنا بريء.. لا أتعامل مع الأعداء ضد مصلحة الوطن.. ماذا أفعل.. الظروف المحيطة بي قاسية..‏

الأقساط المدرسية مرتفعة.. الغلاء لا يرحم.. زوجتي مريضة.. الدواء ارتفع سعره بشكل مذهل.. انها طريحة الفراش.. نحن جميعاً داخل الشريط في مأزق.. في سجنٍ كبير.. ننتظر الفرج والتحرير..‏

وتوقفت همسات السائق، مع توقف محرك السيارة، أمام منزل متواضع تحيط به حديقة مهجورة.. تملأها أعشاب طفيلية كثيرة.. والسائق يتحرك بسرعة وقد أنزل الحقيبة. وقبض الأجرة.. وغادر المكان بسيارته القديمة، تاركاً خلفه عاصفة من غبار أواخر الصيف. وبداية الخريف... والرجل القادم من بيروت الى قريته يقف صامتاً أمام بيته.. وقد أذهلته المفاجأة..‏

لقد وجد البيت مسكوناً من قبل جماعةٍ من المهجرين.. القادمين من داخل الوطن المنكوب..‏

وعلا من داخل البيت.. صوت رجلٍ مسنّ مثله..أثقلته الهموم.. وقد أرغم على ترك بيته وأرضه وممتلكاته.. أهلاً وسهلاً.. لقد جاء صاحب البيت .. تفضل يا عم.. يا مريم اعملي قهوة بسرعة.. وهاتي فواكه.. بدّك ما تواخذنا.. البيت بيتك.. كلمات خرجت من شفتي الرجل المسن يزينها الصدق.. وتشوبها الحيرة والألم.. كما ترى يا أخي.. وجلس الرجل القادم من بيروت بتثاقلٍ فوق كرسي خشبي قديم قدّم له، وقد أحس براحة نفسية.. تأمل الوجوه من حوله..‏

وقد أحاطت به.. فوجدها بريئة مرهقة.. حزينة.. تركت معاناة التهجير والغربة.. بصماتها فوق قسمات هذه الوجوه.. تناول فنجان القهوة ورشف قليلاً منها.. كانت لذيذة .. طيبة.. نقية.. تحدث الجميع.. وأجمعوا الرأي على أن الثعالب، مزقوا الوطن أرضاً وشعباً.. وخلقوا منه دويلات يلفها الحقد، وتحكمها الكراهية.. تناسى الرجل أن له بيتاً في هذه القرية.. وحلّ ضيفاً على أحد أقاربه في القرية المحتلة..‏

جهاز الراديو الصغير في متناول يده.. لم تكن مفاجأة له عندما علم أن معظم أحياء بيروت تتعرض لقصفٍ، عنيف ومدمر..‏

وتذكر الحي حيث يقع بيته.. الذي يعج بالسكان، كأنه خلية نحل.. لقد عاش مع زوجته ووحيده الأعزب الذي يعمل موظفاً بسيطاً في المطار.. حالات القصف هذه.. مئات المرات.. وعادت الى ذاكرته حالة الهلع والهروب الى الملاجئ المسكونة بالرطوبة والعفن.. كلما اشتد القصف على الأحياء السكنية..‏

في الملاجئ.. تنعدم المستويات... يلتقي العامل البسيط بالموظف الكبير والفقير المعدم الثري المتخم.. هذه الملاجئ لا ترفض قادماً.. "مثلها مثل القبور.. تحتضن الجميع.." وحادث الرجل نفسه بقلقٍ وحزن.. أكيد "الختيارة".. نزلت الى الملجأ مع وحيدها وقد أعانها على ذلك.. حبذا لو أنها لم تنس الدواء.. كما حدث سابقاً.. وهي مصابة. بداءٍ في القلب.. أخيراً.. أقنع نفسه المعذبة.. أنها فعلاً لم تنس الدواء..‏

في اليوم التالي.. استيقظ باكراً.. وتفقد اصدقاءه القدامى وزارهم فرداً فرداً.. الذين رحبوا به بحرارة وصدق.. وتمنوا عليه العودة مع زوجته نهائياً الى القرية.. مرّت ساعات نهاره سريعة.. متلاحقة.. ومساءً أشعل الرجل سيجارة برغم أن الطبيب حذرّه من التدخين.. من جديد خيّل اليه أن زوجته تطلب منه عدم البقاء في القرية أكثر من يومين.. ودمعت عيناها.. أرجوك لا تتأخر.. أنا في انتظارك.. أنا وحيدة.. لا استطيع العيش بدونك.. وكما اتفقنا.. ليس هناك أصعب من عشق أواخر العمر.. ومن خلال لحظة حنين صادقة قرر الرجل العودة الى بيروت وإن كانت جحيماً لا يطاق.. وخاطب طيف زوجته.. من أجلك سوف أعود غداً.. في ساعة متأخرة من ليله الطويل.. استسلم الرجل لسباتٍ عميق.. أفاق بعده أبناء القرية الجنوبية على خبرٍ أسعد الجميع..‏

عندما علموا أن شباب المقاومة قاموا مع طلوع الفجر باقتحام المعبر المؤدي الى القرية بعد تدميره وأسر عدد من عملاء "اسرائيل"، وابتسم الرجل فرحاً تعلو شفتيه كلمتا "الله اكبر".‏

الانتقاد/قصة قصيرة ـ العدد 1136 ـ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005‏

2006-10-30