ارشيف من : 2005-2008
"دوار الحجر"
ما زلت أذكر المرَّة الأولى،الَّتي بشَّرتُ فيها عمي ناصيف بعودة أخي عامر من روسيا، حينها كان عمي يطعم سلطانة بقرته البرتقالية اللون الَّتي تدرُّ ستة أرطال من الحليب الثلجي القليل الدسم، واضعاً أمامها غمراً من أعواد الذرة المصفرّة، ويهم بأن يضع أمام معلفها الصيفي الَّذي في الخلاء دلواً من الماء وأمامه أربعة من الأيائل المسمنة.
يومها صرخت: يا عمي ناصيف، هات البشارة جاء عمي قاسم، وجاء معه عامر، التفت إليَّ بوجهه المتعرق، وانتفض في مكانه كمن أصابه لدغ، وما لبث وجهه المستطيل المشرب بالحمرة أن تهلّل مسفراً عن ملامحه القوية التعبير، وقال لي، وشارباه الأشقران، الغزيران، المفتولان بعناية, يهتزَّان من فرط الحبور: تعال لقلبي يا وجه السعد. اقتربت منه بزهو، فرشقني بقبلة من شفتيه السميكتين، ثمَّ غاب بين أشجار الكرز، وآب جاراً وراءه الحصان الأصبح ذا الغرة السوداء، ربطه بوتدٍ إلى المعلف، ثمَّ عاد إلى أغمار الذرة المصفرّة, فتناول غمراً منها بنشاط وتوثب، ورماه أمام الحصان وقال لي بتودد اعتدته منه: أنقل دلو الماء للحصان يا نور عيني، واتبعني إلى البيت، حملت الدلو وهو يزرزب على الجانبين، وضعته أمام الحصان، رفع الحصان مشفريه عن الماء، ضرب دلو الماء بحافره الأمامي، ومنخراه منتفخان، قدته إلى ساحة الماشية، تسلَّقت السياج، وقفزت إلى ظهره ممسكاً بعنانه، فراوح الحصان في مكانه باضطراب، وجعل يلوك اللجام، ثمَّ جرى بي وأنا أباعد أغصان أشجار الرمان والمشمش الَّتي تعترضني، وأحدِّث نفسي بالمكافأة الَّتي تتنظرني.
وصلت إلى باب الدَّار الشمالي فتلقاني عمي قاسم، بكلتا يديه، أنزلني عن الحصان، وأجلسني بقربه وراح يعبث بأصابعه في شعري، شعرت أنَّ يده غيمة بيضاء تظلل صحراء بيتنا العطشى، أمضيت فترة الظهيرة معهم، أنعم بدفء أحاديثهم.
أخذت الحصان ثانيةً، مضى بي في خبب متمايل إلى شجرة الصفصاف الكبيرة المطلة على وادي العاصي من عل، تهالكت في فيئها المعشوشب، ما أشبه هذه الصفصافة بشجرة عائلتنا الضاربة الجذور في أرض دوَّار الحجر الممتدة الأغصان فوق رؤوسنا كمظلة تقينا المطر، مرَّ بجانبي راعي عُجول، كان يسوق عجوله أمامه بصعوبة، يضربها بقسوة، ينهرها شاتماً البقر وأصحابه: آهي، آهي، آهي يا محروق بي صاحبك، مرَّ بجانبي ولم يرني وتركني أتأمل الوادي المستسلم بفتور للعتمة تخلفها وراءها الشَّمس الغاربة، مستعيداً ليلة سفر أخي عامر.
ما أشبه اليوم بالأمس، بالأمس كان عامر واقعاً في ورطة حقيقية، يريد أن يسافر وليس بحوزته الأموال الكافية. وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم كان يتقرر مصيره، إمَّا أن يؤكد الحجز وإمَّا أن يبقى في دوَّار الحجر وينضم إلى جيش العاطلين عن العمل، بقي بيتنا كله يومها مسمراً قبالة الساعة، بانتظار عودة عمي ناصيف وأبي من بيروت، ليخبرانا بنتيجة لقائهما بعمي قاسم، وحين وصلا في الساعة الثالثة والنصف وسأله عامر: شو قمحة أو شعيرة؟
يومها تهلل وجه عمي ناصيف وقال: عينوا خير يا هالربع قمحة إن شاء الله...
أما اليوم فعمي ناصيف عمود بيتنا وركزته الأساس, يترنح تحت ضربات الأيام المتلاحقة, وليس حوله من معين.
لطالما تساءلت كيف يمكن لرجل ليس له من هيئة الرجال إلاّ الاسم أن يكسر شوكة عمي ناصيف؟ يزوره في الصباح ليجلده ليسمم صباحه, ويعود إليه في المساء ليجلده بسياط تهديده ووعيده ولا يتركه إلاّ بئراً من الصمت والحزن والكبرياء.
كيف يمكنني أنا الذي تربيت على فكرة أن عمي ناصيف أقوى رجل في العالم, أن أراه ينزف بصمت كأسد شائخ جريح؟ أين أنت يا أبي؟ أين أنت يا عامر؟ أين أبو عاصي؟ بل أين أنت يا عمي قاسم؟ في أي عاصمة من عواصم العالم أنت؟ ألم يخبرك أحد بما جرى علينا في غيابك؟ أيرضيك أن كبيرنا تحت سياط رجل نذل؟ أمن المعقول أن تتركنا يا عمي نتعرى أمام عيون دوّار الحجر الشامتة التي لا ترحم عزيزاً جارت عليه غوائل الأيام.
(*) مقطع من رواية تصدر قريباً عن دار الهادي للزميل حسن نعيم وهي الثاني له وتحت عنوان دوّار الحجر.
الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1136 ـ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018