ارشيف من : 2005-2008

مصطفى العقّاد: "الرسالة" التي اغتالها الاسلام الاميركي

مصطفى العقّاد: "الرسالة" التي اغتالها الاسلام الاميركي

مشهد أوّل: حلب:‏‏

.. وفي الاثنين والسبعين من عمره، عاد مصطفى العقاد الى "حي الجميلية" في مدينة حلب، حيث ولد (عام 1933) وعاش سنوات عمره الأولى.‏‏

في ذلك الحي الحلبي وعلى مسافة من خط الترامواي، كان ثمة فتى حالم تأخذه صفّارة القطار الذاهب بعيداً خلف الجبال والقلاع العالية، يسمع ويرى ويحلم، ولكي يكتمل حلمه كان يسرع مع جاره الى حيث يعمل في صالة عرض سينمائية، يشاهد ذلك الشريط الأسود الطويل، وهو يتحول الى مشاهد وأناس حصدت صنعتها مدينة هوليوود السينمائية، فقرر ان يذهب بعيداً الى تلك المدينة ليكتشف سحرها ويصنع منه الصورة التي يحب، يومها صارح أبيه كاشفاً عن حلمه ولم يكن أمام الأب إلا أن منح ابنه مئتي دولار ومصحفاً، زاداً للسفر وحرزاً من تلك المدينة المملوءة بالغواية.‏‏

مشهد ثانٍ: هوليوود:‏‏

كان مصطفى العقاد في الحادية والعشرين من عمره عندما دخل اميركا (عام 1954) ليدرس الإخراج السينمائي ويقتحم مدينة هوليوود مستطلعاً ومكتشفاً، ليشعر بعد فترة وجيزة أن الآخرين الوافدين من مدن الضباب وناطحات السحاب ليسوا بأفضل منه، بل استطاع أن يقوم من خلال سلوكه العربي الصادق وعاداته الطيبة وخلقه الحسنى صورة من الانسان المسلم المختزن لكل رسالات السماء والمجبول بكل عرى التسامح والمحبة والمغسول بالايمان، وكان كلما دهمته لحظات العزية وسوّلت نفسه امارات الغرب تذكر منديل أمه ميقات الصلاة ومصحف أبيه ميقات السفر، وحارته المعشوقة ميقات الطفولة، ليرجع سريعاً الى جذوره وأصالته.‏‏

وما إن أتمّ دراسته حتى راح يبحث عن عمل ونص سينمائي اسلامي الهوية يخاطب من خلاله الغرب أولاً ويقتحم من خلاله السور اليهودي الذي يحاصر صناعة السينما في هوليوود ثانياً، فوقع اختياره على خاتم الرسالات السماوية، ولتكون رسالة الاسلام هي بصمته الاولى على ذلك السور، فقدم فيلم "الرسالة" عام 1976 راوياً فيها حكاية نزول رسالة الاسلام على نبي الله محمد (ص) وانبعاث أنوار السماء والعدالة على الأرض، وانزياح قيود العبودية من بني البشر، فلا فرق بين أبيض وأسود الا بالتقوى، وترسيخ أواصر الاحترام والمساواة بين أفراد البشر كافة.‏‏

مشهد ثالث: مقاومة الهزيمة:‏‏

كان فيلم "الرسالة" شعلته الأولى، ولم يتوقف عند ذلك، فقد استفزه عام 1978، مشهد رؤيته لذهاب الرئيس السادات الى الكيان الاسرائيلي ليشعره ذلك المشهد بالذل والإنكسار خاصة أمام الرأي العام اليهودي في اميركا حيث يعيش.‏‏

يومها انتفض العقاد من انكساره ووقف حاملاً على كاهله كل تاريخه المشرق برجالاته وثواره ومقاوميه وشهدائه، وقرر أن يرد لذلك التاريخ اعتباره بعد الذل الذي ألحقه السادات بكل ذلك التاريخ.‏‏

حول تلك الحادثة روى العقاد في لقاء لي معه في بيروت عام 1999م أنه أراد انتاج عمل سينمائي عن رجل عربي مسلم لم ينحن للمستعمر بل قاوم بشرف ومات بشرف، رجلٍ يُفهم الغرب أن الذين بنوا تاريخنا هم الكبار وهم الأصل الثابت، بينما المنهزمون هم الاستثناء العابر والمعزول في ذلك التاريخ، فاختار عمر المختار وأنتج عنه فيلماً أسماه "أسد الصحراء"، كان ذلك عام 1980، حيث أسند دور البطولة، كما في فيلم الرسالة الى الممثل العالمي انطوني كوين.‏‏

شهداء مع: الاستشهاد:‏‏

في فيلم عمر المختار "أسد الصحراء" تجلت الرؤى الثورية في ثقافة مصطفى العقاد حيث عمل على تقديم شخصية البطل عمر المختار بأبهى صورة وأعظم ارادة في مقارعة المستعمر الايطالي لليبيا، ولعلّ مشهد المعركة الأخيرة في الفيلم وعدم الاستسلام واعتقال عمر المختار وسوقه الى حبل المشنقة مرفوع الهامة صامتاً كبيراً مهيباً وهو يجول ببصره على جموع مواطنيه يستنهضهم، ثم إعدامه وانطلاق الزغاريد، ومن ثم هرولة طفل صغير نحو خشبة الاعدام والتقاط العدسات التي سقطت من كف عمر المختار والهرولة بها بعيداً مع الجموع، ما هو إلا اشارة على استمرار المقاومة من جيل الى جيل.‏‏

بعد فيلمي "الرسالة" و"عمر المختار" استمر مصطفى العقاد باحثاً عن أبطال جدد يقرع بهم أسماع وعقول المجتمع الغربي، ويرفع بالتالي عن مجتمعنا العربي المسلم صورة الذل والاستسلام والخنوع، فراح يبحث عمن يدعم حالياً تحقيق حلمه وبقي يجول طيلة ربع قرن، حتى لحظة موته، حاملاً بين يديه مشاريع للأندلس ويكثر من الثوار والمقاومين، لكن هذا الحالم اصطدم بواقع عربي وزعماء عرب يكدسون ما تبقى من أموالهم بعيداً عن أحلام وتطلعات الشعوب.‏‏

مشهد خامس: الألم الصامت:‏‏

تألم العقاد كثيراً من المشهد السياسي العربي المأزوم ولما وقعت مجزرة قانا واسعاف المنصوري في عدوان أيار 96 على جنوب لبنان، اهتزت قامة ذلك الرجل فأنتج فيلماً وثائقياً قصيراً عبارة عن أنشودة مزج فيها بين مشاهد من فيلم عمر المختار وأخرى من المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين ولبنان.‏‏

من خلال تلك الأنشودة والتي أسماها "يا أمة العرب" حاول العقاد أن يطلق صرخة مجرّحة مما يعتمر قلبه من حزنٍ وألمٍ وانكسار، موصفاً الحال المزري الذي وصلنا اليه جميعاً، ولعلّ تلك الصرخة كانت النداء الأخير الذي أطلقه العقاد مختتماً بها سيرته ومسيرته وأحلامه وتجواله المرير.‏‏

مشهد سادس: لقاء المقاومين‏‏

في حياته التقى العقاد بالكثير من القيادات والرجالات العرب، لكن القليل منها هي التي تحدث عنها، ومن هذه الرجالات التي افتخر بلقائها كان أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، وحول ذلك اللقاء يروي العقاد قائلاً: يوم التقيت بالسيد حسن نصر الله قال لي: يجب أن نكرمك يا مصطفى، قلت له أعوذ بالله أنا الذي يجب أن أكرمك، ويكمل العقاد بقوله هذا الانسان رائع جداً وكبير ويكفي أنه قدم ابنه هادي على درب الشهادة.. السيد نصر الله مرجع تاريخي وثقافي وفكري مهم للغاية.‏‏

هذا الاحترام للمقاومة ورجالاتها لم يتوقف عند السيد حسن نصر الله فقد سبق للعقاد والتقى بسماحة الامام موسى الصدر أثناء عمله على فيلم "الرسالة"، يومها وضع الامام الصدر كل امكانياته بين يدي العقاد.‏‏

عمان‏‏

عندما التقى العقاد ابنته ريما الآتية من بيروت ولحظة وصولها همّ الأب لاحتضان ابنته لكن ثمة ضوء أسود أعمى هزّ المكان وأطفأ كل المشهد البصري، واستطاع ذلك الانتحاري الأعمى المزنّر بالاسلام الاميركي المشبوه ان يغتال مع العقاد أحلاماً عن القدس وبغداد والشام وبيروت.‏‏

هذا المشهد الدامي الذي كان حتى لحظة الاغتيال موضع اختلاف بين جمهور المسلمين حيث كان ينظر اليه من موقع الاعجاب عند البعض ومن موقع الحقد الأعمى عند البعض الآخر، نتمنى أن يؤسس مشهداً أول لفيلم جديد يعيد صياغة موقف اسلامي جامع يتفق فيه على المسافة بين الاسلام الأصيل المقاوم لأميركا و"اسرائيل" والاسلام الأعمى المستورد من معاهد اميركا و"اسرائيل".. وحتى ذلك المشهد نودع العقاد بحزن متمنين أن لا يكون الضوء الأسود المدمر هو القادم نحو مدننا الجميلة.‏‏

حسان بدير‏‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1136 ـ 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2005‏‏

2006-10-30