ارشيف من : 2005-2008
ما بعد الحداثة وتداعياتها
الانتقاد/ زوايا ـ العدد 1137 ـ 25/11/2005
إذا كانت ظاهرة ما بعد الحداثة تواجه مشكلة عدم وجود نظرية واحدة موحدة لتعريفها وتفسيرها وتستجلي الغموض الذي يكتنفها، على عكس الحداثة التي استقرت في الأذهان النظرة عنها بأنها المعرفة العلمية المنهجية والبحث عن الحقيقة الموضوعية، فإنها ـ ما بعد الحداثة ـ تنطلق من التشكيك في كل تلك المبادئ العامة والأسس الكلية الشاملة التي سادت عصر التنوير، وتذهب إلى اعتبارها مظاهر بائدة تنتمي إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وليس إلى العصر الحالي الذي ابتدأ في منتصف القرن العشرين من وجهة نظرهم.
يرى مفكرو ما بعد الحداثة أن تلك القرون أورثتنا، إلى جانب المنجزات الصناعية الكبيرة، مزيداً من الاغتراب الداخلي الناجم عن سيطرة قيم البيروقراطية التي سحقت الإنسان بالقهر والكبت والتسلط. وهم ـ مفكرو ما بعد الحداثة ـ لا يعتقدون أن المجتمعات الحديثة قد أساءت استخدام العلم والتكنولوجيا فحسب، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يرون أن المجتمعات الحديثة تؤدي بطبيعتها إلى قيام هذه النزعات والمثل والقيم. ويصل الاعتقاد ببعض مفكري ما بعد الحداثة من أمثال دريدا وليوتار وفوكو إلى إحلال الذاتية محل الموضوعية والخاص مكان العام، فلا أخلاق ثابتة ولا قيم راسخة ولا إيمان ولا أخلاق، فكل شيء يخضع للذوق والاختيار الشخصي. يقول فوكو: "إن كل تحليلاتي تنكر فكرة وجود أساسيات أو ضرورات واحتياجات عامة في الوجود الإنساني".
وكان ديفيد هارفي ناقداً بشكل أساسي لفكرة ما بعد الحداثة القائلة بأنه ليس هناك واقع أو حقيقة مفردة واحدة، فالتمسك بالموضوعية والبحث عن المعرفة الموضوعية يوصلان إلى الظن بأن الحقيقة توجد خارج الفرد، الأمر الذي أدى إلى انعدام ثقة الإنسان بنفسه وبقواه وقدراته وإمكاناته.
ويرى ج. تيمونز روبيرتس في كتابه "من الحداثة إلى العولمة" الذي صدر عن سلسلة "عالم المعرفة" في عدد 310 عام 2004: أن بعد الحداثة فتحت باباً للسياسات الراديكالية، ولكنها رفضت في أغلب الأحوال المرور من خلاله".
الحداثة وما بعد الحداثة
يختلف قرّاء ما بعد الحداثة في شأن علاقة الحداثة بما بعد الحداثة، إذ يرى البعض أن ما بعد الحداثة ما هي إلاّ تعديلات نشأت بسبب تغير الظروف والأوضاع المحيطة بالحضارة.. وعليه فما بعد الحداثة هي الحداثة نفسها بصيغتها المتقدمة مع تعديلات تناسب الأنماط الجديدة: الاستهلاك وسرعة استعمال التعاطي مع الوقت. فيما يرى البعض الآخر أن الحداثة ليست تصعيداً للمرحلة الرأسمالية الحالية، وإنما هي ثقافتها بالذات.
ويذهب البعض الآخر إلى أن ما بعد الحداثة رسخت وجودها عبر نقض الثقافة الحداثية، فما بعد الحداثة تلغي دور العقل الذي ترى أنه ينزع عن العالم إنسانيته ويدمره، وتتصدى إلى العلم الوضعي الذي شكل أحد طموحات الحداثة، وهي لا تدّخر جهداً في تحويل مشروع المعرفة إلى مشروع رمزي وليس مشروعاً فعلياً. كما أنها ترفض رفضاً قاطعاً التمييز الذي اعتمدته بين الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية أو الجماهيرية.
إذاً ما بعد الحداثة هي التمرد على الأنماط والأطر السائدة والتقاليد والأنواع الكتابية والفنية التي تتبع أسساً يتمايز بعضها عن بعض، فهي تؤمن بكسر القوالب الجاهزة وترفض الخضوع للقواعد، كما ترفض الفواصل والحدود بين أنواع الكتابة المختلفة، بل بمزجها وعبور بعضها الى بعض في عملية محو الفوارق بين الحقول الفنية المختلفة، ليتمكن المبدع من تحقيق فرادته عبر تفكيك أوصال الصنم الذي طالما تعبّد له أسلافه الحداثيون، حتى يتمكن من أن يلهو بإعادة تجميع أشلائه وفق هواه.. وهذا ما يفتح لنا باب الفوضى على مصراعيه.
الفوضى
يرى روّاد ما بعد الحداثة أن الفوضى هي جوهر ظاهرة ما بعد الحداثة، فكل شيء يتحرك بفوضى. وقد أفاض جورج بالاندييه في وصف الفوضى باعتبارها سمة إبداعية، ليس باعتبارها حركة تزيل قديماً وتخلق جديداً فحسب، وإنما باعتبارها ظاهرة تمثل المنحى الإيجابي للتغيير ورافعة لعنوان كبير هو فكرة "السوق" التي تشكل المعيار والمؤشر الوازن في المجتمعات الـ"ما بعد حداثية" التي تحكمها الفوضى. وعلى ذلك فإن الجديد والموضة هي الدلالة على حجم الحضور والوجود، وهي ـ أي الموضة ـ ستشكل النظام النمطي في المجتمعات الـ"ما بعد حداثية".
ما بعد الحداثة هي أبرز صيغة للخطاب العابث الواسع الانتشار اليوم، والذي يشبه محاضرات دريدا التي تحولت إلى مونولوجات مطولة ومنفلتة وغير منظمة وخالية من التركيز.
حسن نعيم
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018