ارشيف من : 2005-2008
بين مفهومي الغلبة والشهادة : القتل في سبيل الله أكبر الانتصارات
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1135 ـ 11/11/2005
يتجه المنهج القرآني في نظرته للشهادة والنصر، إلى تقديم الشهادة على النصر: "ومن يقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً".. فمن خلال الشهادة يستطيع الشهيد أن يؤمن لنفسه المنازل العليا في دار البقاء, ويحيا هناك عزيزاً يرفل بأنواع النعيم التي أعدها الله للمتقين والمجاهدين في سبيله. ولا يخفى الهدف الإلهي من تقديم فكرة الشهادة على فكرة النصر، لا سيما على مستوى رفع معنويات النفوس وتعلقها بالرجاء بفضل الله العظيم. فعدم الخشية من القتل لها مقابل، هو الفضل العظيم في دار الآخرة, فهذه الحياة الدنيوية لا تساوي شيئاً إذا قيست بحياة الآخرة. والخطاب القرآني يزخر بالآيات التي تنفر الإنسان من الصفقة الخاسرة إذا ما هو اشترى الدنيا بالآخرة, ولم يشترِ الآخرة بالدنيا, فهذه الصفقة خاسرة خاسرة، سواء انتصر الإنسان في معارك الأرض أم لم ينتصر، وسيّان غنم أم لم يغنم.. وأين ثرى غنيمة الدنيا من ثريا غنيمة الآخرة!
في "ميزانه" الشهير يبين العلامة السيد الطباطبائي هذه الحقيقة القرآنية بالقول: "إن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين: أن يقتل في سبيل الله أو يغلب عدو الله, وله على أي حال أجر عظيم. أما ثالث الاحتمالين وهو الانهزام فلا وجود له، لأن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم، وقد قُدم القتل على الغلبة لأن ثوابه أجزل وأثبت, فإن المقاتل الغالب على عدو الله وإن كان يكتب له الأجر العظيم, إلاّ أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الأعمال الموجبة لحبط الأعمال الصالحة, واستتباع السيئة بعد الحسنة, بخلاف القتل في سبيل الله، إذ لا حياة بعده، لا حياة بعد الآخرة ونعيمها. فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتماً, وأما الغالب في سبيل الله فأجره مراعى في استيفاء أجره". فعلى طول الرحلة التي يقطعها الشهيد في سبيل الله منذ لحظة سقوطه أرضاً وارتفاعه شهيداً في سبيل الله وتكريمه بالمنازل العليا، لن يكون أمامه متسع من الوقت ليكلف بالتكاليف الشرعية التي يكلف بها غيره من المجاهدين ومن الناس عامة، فلا ابتلاءات ولا امتحانات ولا تكاليف شرعية ولا تآكل للخيرات ولا محو للحسنات..
وهكذا ليس أمام الشهيد إلاّ الفوز والتكريم والبشارة والفرح والسرور..
أولوية النصر
إذا كانت حسابات المؤمنين بالله تنشد ما عنده الله وتسقط من أولوياتها ما ينشده الناس العاديون الغارقون في بحار الغفلة, وإذا كانت درجة الاستشهاد على ضوء الرؤية القرآنية أعلى درجةً من درجة النصر، فهذا لا يعني أن يخوض الإنسان الربّاني معاركه وهدفه وأن يقتل كي يحوز رفيع الدرجات، لأن الهدف الحقيقي ليس هو الشهادة، وإنما كلمة الله على أرضه وإحقاق الحق وإبطال الباطل. وعليه فالحركة هنا هي حركة قصدية وليست عشوائية وعدمية بلا هدف إلا الموت, وإنما هي ـ الحركة ـ هي فعالية لتحقيق النصر والشهادة، هي الوسيلة التي تلهب النفوس بالحماسة بدل التلكؤ والانكفاء والخلود إلى الأرض وزينتها. وبناءً على ما تقدم يصبح الهدف هو النصر والشهادة هي الوسيلة المهمة من وسائل تحقيق النصر.. فالنصر أولاً ثم الشهادة، وليس العكس.. وينبغي الأخذ بالشروط الموضوعية كافةً التي تكفل هذا الهدف النبيل.
إيجابيات النصر
إذا كنا قد تناولنا إيجابيات الشهادة وما تعود به على الشهيد من بركات ومنازل رفيعة عند الله، فإن النصر عندما يتحقق يؤسس لنهضة المجتمع الإسلامي ويضع الأمة أمام امتحانات وتكاليف, كما يضع المجاهد في سبيل الله أمام الاختبارات ليتوضح معدنه الحقيقي وتظهر حقيقته الإيمانية إزاء زخارف الدنيا ومغرياتها التي يمكنه منها النصر المحقق. وفي التاريخ الإسلامي مواقف كثيرة تؤكد هذا المعنى. ففي معركة أحد وبعد أن لاحت بشائر النصر, أعرض المسلمون عن أوامر رسول الله (ص) الصريحة بعدم النزول عن الجبل، ولأن نشوة النصر أخذتهم, أغفلوا توجيهات الرسول (ص) بعد أن أغشت غنائم الحرب أبصارهم, فأسرعوا يتسابقون عليها، فالتف عليهم أعداء الدين بقيادة خالد بن الوليد الذي استولى على الجبل وقتل من المسلمين من قتل وأسر من أسر، وأنهى المعركة لمصلحة المشركين، فنزلت الآية القرآنية: "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزّىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت, والله بما تعملون بصير"..
يقول العلاّمة الطباطبائي: إن هذه الآيات نزلت في خصوص غزوة أحد، وهي تبين ما في هذا من الأسف ومن الحسرة الناتجة عن سوء الظن برسول الله (ص).
وحاصل ما تقدم أن القتل في سبيل الله هو فوز وفلاح حتى لو لم يعقبه انتصار مادي على الأعداء.. هو فوز لأنه امتثال لأمر الله في عدم الركون للظلم بالدرجة الأولى، وفلاح مهما كانت النتيجة، فإن كانت غلبة على أعداء الحق فهي انتصار يستتبعه امتحانات واختبارات أخرى، وإن كانت شهادة فسيعقبها مغفرة تمحو ما كان من الذنوب والسيئات، ورحمة ترفع المنازل والدرجات.
ح.ن
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018