ارشيف من : 2005-2008
عن الشعر والعرفان وتجربته في "شيرازيات"/محمد علي شمس الدين:مقام العرفان أعلى من مقام الشعر
الانتقاد/ مقابلة ـ العدد 1135 ـ 11/11/2005
إذا كان لكل امرئ من اسمه نصيب، فنصيب المصادفة التي جمعت بين حافظ الشيرازي ومحمد علي شمس الدين هو ديوان شيرازيات.. اسم الأول هو شمس الدين محمد، واسم الثاني محمد شمس الدين، المصادفة الجميلة تأخذنا الى المنابع الشعرية لكل منهما، وهي تساقط الدمع في نهر الحب والعرفان.. لكأن المفارقة الاسمية تحمل في طياتها قاربين، واحدا لشمس الدين محمد وهو عائد من إنتاج شلالات النور، وآخر لمحمد شمس الدين وهو ذاهب اليها.. وعندما حاذى محمد شمس الدين صاحبه ألقى اليه تحية اسمها "شيرازيات".
الفكرة التي أحب أن نبدأ بها هذا الحوار هي تبيان علاقة "العارف" بالخالق سبحانه وتعالى، ألهذا قلت في مقابلة سابقة "إن مقام العارف أعلى من مقام الشاعر"؟
إن مقام "العارف" مقام روحي وعرفاني وإلهي، فليس بالضرورة أن يكون العارف شاعراً.. أما اذا كان العارف شاعراً فتندمج المقامات، لأن الشعر عبارة والعرفان صمت، وغالباً ما تُقصر العبارة عن المقام. أي كلما كان المقام عالياً وجدت العبارة ارتباكات، لذلك فالشعراء الكبار العارفون يمجدون الصمت. وأنا شخصياً لي "يوميات الصمت"، التي أقول فيها:
"يا مولاي.. أمرتني شفتاك
حين أهاجر نحوك في موكب أسفاري
.. بالصمت
ولهذا، فأنا أكتب أشعاري بدم أبيض".
إذاً هذا المقام يصعب شرحه، لأنه اذا كان المقام مقام الصمت، فكيف يعبّر عنه بالكلام! الصمت هو الإشعاع، هو الحقل المغناطيسي، هو كهرباء الوضع البشري، اذ كلما كانت الحال شديدة قصّرت العبارة.. دائماً هناك مساحة من الصمت مكملة للحال.. أو مثلما قال الشاعر:
"فكان ما كان مما لست أذكره
فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر".
ـ العبارة القرآنية هي كلام الله الإعجازي الذي لا يصل الى مرتبته كلام مخلوق على الإطلاق، أي لا يضاهيه إعجازياً، لكن برأيك اذا ما ارتقى كلام المخلوق، فهل يمكن ان نطلق عليه صفة الإعجاز البشري مثلاً؟
في كلام الله المسافة بين القول والفعل معدومة، وهذه مسألة لا تكون إلا للخالق المبدع الأول.. ما الفرق بين المتنبي والنبي؟ هو هذا.. المتنبي أراد أن يكون نبياً فعجز، فصار شاعراً، اذ لا حدود بين الحقيقة والمخيلة في الكلام الإلهي، في حين أن ثمة فارقاً أساسياً بين الفعل والمخيلة في كلام الشعراء. وهذه هي الخطورة أيضاً، اذ كان اليونانيون يسمّون الشعراء "سارقي النار المقدسة"، أي النار المقدسة هي نار الخلق تبعاً للرؤية الوثنية اليونانية، هي نار الآلهة.. الشعراء سارقو النار المقدسة، أي سارقو خبرة الخلق ومستعيروها للقول، والحقيقة الشعرية هي حقيقة تخييلية ترقد في المخيلة، حيث إن المخيّلة ليس لها لجام، فالمخيّلة حصان جامح ومجنون أيضاً وليس له حدود.
ـ وماذا عن العلاقة ما بين الشعر والعرفان، هناك الكثير من العرفانيين الكبار والشعراء كحافظ الشيرازي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي، ما هي العلاقة بين الشعر والعرفان؟
برأيي الأصل واحد، الشعر أصله في الغيب، مصدر الشعر في الغيب، والعرفان هو الحركة البشرية للاتصال بالغيب، التوق البشري للاتصال بالغيب.
كذلك تكمن هنا فكرة أن العارف إنما يحس بالأشياء فيصعب التفسير، لأن ذلك لا يخضع لمحاكمات العقل ولا للمنطق ولا للحسّ أيضاً، أي كلاهما يتلافى العقل ويتلافى الحسّ. والحس هو أول طريق المعرفة، والمعرفة التجريدية هي جزء من أجزاء المعرفة العقلية.
ـ بل يعدونها أعلى من المعرفة العقلية؟
نعم هي أعلى، لأنها موصولة بأسرار القلب أكثر مما هي موصولة بأسرار العقل.. أسرار القلب تُنال بالذوق، هي معرفة إشراقية كما يقال. وأنا شخصياً يوم ذهبت الى ايران بدعوة من وزارة الثقافة وقرأت ديوان الإمام العظيم الخميني "كأس العشق" أو"جام العشق"، وهو عبارة عن قصائد عرفانية تأثر فيها بأشعار حافظ الشيرازي، ويهدي هذه القصائد الى زوجة ابنه أحمد.. قرأت العبارة التي تُوصل الى ما يسمى وحدة المتناقضات أو الوحدة الجوهرية للظواهر المختلفة، كتلك الضديات والثنائيات بين "الإبليس" والقديس مثلاً، بين الخمرة والصلاة مثلاً.. حتى بيت المجوس وبيت العبادة، في الجوهر ليس هناك من ثنائيات، ليس سوى الله، إنما الظواهر هي التي تخاطب الحواس، وفي الحواس هناك هذا التمييز.. أما في الجوهر العرفاني فليس ثمة سوى وجه الله. من هنا تأتي العبارة أو الظواهر في كثير من الأحيان لمن لا يدرك المعنى العميق، مضللة ومربكة.
وليس بالضرورة أن يكون كل عرفاني كبير شاعراً.. في كل الأحوال الشعر يأتي من مصدر غيبي وغامض.. برأيي الشعر يمسّ روح الوجود والخلق، الله ومآل الإنسان والحياة والمصائر، فكلها مسألة خطيرة جداً، فإذا كنا ننظر الى الحقيقة الشعرية على أنها حقيقة فعلية، يصبح هنا الوهم هو الذي يصنع الحقيقة بالنتيجة، فالشعر هو انخطافات القلب.. وكما قال الغزالي انه اهتدى بنور قذفه الله في القلب، حين سُئل: كيف؟ قال: بنور قذفه الله في القلب. لم يفسّر.. فهنا يتلاقى الشاعر مع العارف، أو الشاعر مع الصوفي الى حدّ ما.. الصوفية كطريق من طُرق المعرفة، كطريق تشريق عرفاني.. ثمة تقاطعات.
ـ هل يمكن أن يكون الشعر سلوكاً؟
أنا أقول إن الشعر لا يستطيع إلاّ أن يكون سلوكاً.
ـ يقال إن أهل التصوف هم أهل السير والسلوك؟
بلا ريب، في الجوهر الشعر هو قصيدة والقصيدة سلوك، دائماً ثمة ظاهر وباطن، جوهر ومظهر. في الجوهر لا يمكن أن يكون الشعر إلا سلوكاً. يعني أنا ككائن حقيقي جوهري، وجوهري في شعري في نصي، وشعري هو كشف المستور بحدود ما تتيح اللغة والكلمات، فكل ما عدا ذلك هو برأيي قشور من طعام وشراب وسلوك يومي.. فالشاعر هو نصّه.
ـ اذا أردنا الحديث عن المنحى الديني لشعر محمد علي شمس الدين، من المعلوم أنك تكتب الرموز والكلمات، وتتوغل عميقاً في نصّك الشعري، ماذا تحدثنا عن هذه الناحية في شعرك؟
الآن أريد أن أقول إنني أنا ابن سيرتي، ومن صغري أنا ربيب حضن جدي الكربلائي، وأنا ربيب أذان الفجر، في بيت ياحون، قريتي، والأوراد والقراءات والأشعار المغناة بصوت شجي، بعضها مدائح للرسول(ص).. دائماً والأرجح أن الشاعر هو هذا الجذر الآتي من الطفولة، هذا الجذر الذي يغوص في التراب.. ربما يطمر في اللاوعي، إنما تبقى تدفقاته مستمرة الى آخر الحياة. فهذا الشيخ هو التجسيد البشري والروحي لهذا الولد، كنت أغوص في أعماق الوجدان والحزن أيضاً، وحين كنت أصغي اليه وهو يقول:
"بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا
وخلّفوا في سويداء القلب نيرانا
نذراً عليّ لئن عادوا وإن رجعوا
لأزرعن طريق الطفّ ريحانا"
كانت نفسي تتشرب هذا الصوت وهذا الحزن، من دون أن أعلم على وجه الدقة من هم الذين كانوا هنا في الأمس ثم عادوا فرحلوا.. وحتى طريق الطفّ ما هي؟ هذا الأصل غرز في اللاوعي، وبعد ذلك بالفعل، فإذا اعتبرنا الشعر هو اللغة الأولى والأصفى والأكثر في التجربة البشرية، فإن رصيد الكلمات لديّ تلقائياً صار يأتي مغمساً بهذا الماء الأول ودونما إرادتي، وأنا لم أتقصد أن أكتب "شمس محمد".. بل تلقائياً "لمحمد لغة الأرض وميزان الحقيقة، محمد رفّة العشب على جفن الحديقة، وله الباب الذي يفضي الى السرّ ومفتاح السماء، وله وردة عين الفقراء، ومحمد يبدأ دائماً من أول السطر في الخليقة، ليدور الفلك الأعلى به والنيران، لغزالين على رمل الجزيرة يملآن السهل من ضوء يديه..
كان يا ما كان في بدء الزمان، ظلمة تسبح فوق الظلمات، رفع الله غطاء السنوات فجأة عن شفتيه ورمى بين يديه كرة الشمس الكبيرة، آه يا شمس محمد، لا تغيبي عن فضاء الروح يا شمس محمد.. هذه هي تنهدة، تنهدة تلقائية، لم أتقصدها.
ـ وماذا عن الثقافة القرآنية؟
إنها جزء كبير من ثقافتي، وما زلت حتى الآن أرتجف حين أقرأ الذكر الحكيم.. أصبحت صاحب قراءات أخرى طبعاً، فأنا قارئ كل الأدب العربي والعالمي تقريباً، وصاحب ثقافة فلسفية أيضاً، وثقافة تاريخية، فأنا حاصل على دكتوراه في التاريخ أكاديمياً، ومن صغري أنا أقرأ الفلسفة بكثرة، وأعتقد أن الشعر هو خيالات تطلع من أرض ما، تهيم بين التاريخ والفلسفة والتأمل.. إلخ. أقرأ باللغة الفرنسية، وأقرأ باللغة الفارسية بعض الأشياء، ولكن كل ذلك لا بد من أن يغتسل في هذا الماء الأول الذي قلته لك، أي ان العصب انبرى هناك.
فأنا شاعر وجد، هذا الوجد لا يمكن الا ان يكون وجداً أبعد من الحب.. إنه يتصل بعصب داخلي من الروح، من النفس. أنا طبعاً حياتي مرهقة، والمتعة الحسيّة أعاقرها، ولكن الرسالة باستمرار لديّ تبعد أكثر من الحس. من صغري أنا مريض بالمعنى، والمتعة لديّ تتجاوز باستمرار المنطقة الحسية الى المنطقة الإحساسية.
أنا أستطيع أن أقول لك إنني أعتقد وأعتبر نفسي تقريباً الشاعر العربي الحديث الوجدي الآن الذي ينبع الشعر في ذاته من ينابيع سريّة متصلة بالغيب الديني، فالمنبع الصوفي عندي هو جزء من حركة قديمة لا جديدة.
ـ لنتحدث عن "شيرازيات"، في شيرازيات ثمة مشروع فكر يختزن أسراراً روحية ورموزاً عرفانية، ماذا تحدثنا عنه؟
أنا حقيقة حين قرأت ديوان حافظ الشيرازي، وكان مقترناً بذهني المقام العالي لحافظ لدى الشعب الإيراني وفي الثقافة الرسمية والشعبية، حداني ذلك لمزيد من التوغل في أسراره، فقرأته وحملت معي عدة طبعات من ديوانه ومن ترجمات هذا الديوان، واستعنت بالترجمات خصوصاً بترجمة الدكتور الشواربي التي قدم لها الدكتور طه حسين في ثلاثينيات القرن الفائت حيث طُبعت أول مرة.. قرأت وانفعلت في الداخل، لأنه وجد في نفسي صدى، ونسيت بمعنى قرأت، والحياة أخذتني في همومها ومشاكلها، ومررت بعارض صحي مهم عانيت فيه الألم الجسدي الكبير، وهذا الألم الجسدي الكبير بعد أن شفيت منه حثني على التأمل.. وتلقائياً فاضت الكتابة، فاضت القصائد تلقائياً، مع الحفاظ على جوهر المعنى، وعلى السر، سرّ القصيدة. أنا كتبت "صلة وصل" أو ما يشبه ضوءاً، بالطبع حين أقول "خُذ يا صُهيب فَمَ الإبريق في شغف واسكب شرابك من أصل الفراديس ـ صهيب هو الصحابي الروحي للرسول ـ
فلا يعيب على الندمان خمرتهم
إلا الذي لم يجرب حادي العيس
تمشي الهوينا خطاياهم على مهل
ونقتفيهم على ضرب النواقيس".
هذه الصيغة بيانية لي، كل ما يعني ذلك من كلام، لأنه اذا أردت أنت أن تقرأ الوزن الفارسي والصيغة الفارسية، ستجد بوناً شاسعاً بين ما كتبته في الصيغة وفي اللغة وفي الصورة أيضاً. أنا أعدت إنتاج هذا المعنى عربياً، فأنا أمين للفكرة هنا، ولكن هذا البيان وهذا البلاغ وهذه النبضة العربية هي لي، لذلك أقول أنا عرّبت ولم أترجم.
لنأتِ الآن الى المعنى: "خُذ يا صهيب فَمَ الإبريق في شغف.." ان أي قارئ عادي سيقول: لماذا صهيب، الإبريق، الخمرة؟ صهيب صحابي الرسول! بالطبع الجواب.. لا، ولكن حين وضعت اشارة ما في الداخل، أن الخمرة هنا هي النشوة النفسية والإلهية، وليس الخمرة المحسوسة، فآنئذٍ يمكن للقارئ ان يستضيء بهذه الإشارة. في الجمهورية الإسلامية ليس ثمة من حاجة لذكر ذلك، لأن هذه الثقافة شعبية أيضاً.. عندنا هذه الثقافة ليست شعبية، فهي بحاجة لمن يسعفها.. وبدأت، وكنت متحرجاً وقلقاً جداً تجاه هذه النصوص، والقلق يأتي حقيقة من إشكالات في الثقافة الشعبية حين تتعاطى مع شعري، وأنا شخص الى حدّ ما يقرأني الناس، وأعرف علاقة الناس بي، العلاقة اليومية.. يعني في مرة من المرات حين قلت قصيدة أغنية "كي تنام زينب"، جاءني رجل دين الساعة التاسعة ليلاً وعاتبني: أنت تقول كذا وأنت شاعر كذا.. لماذا؟ قلت له: لكذا.. مرة ثانية في قصيدة اسمها "المهدي" تعرّضت لمشكلة في دار الأوبرا في القاهرة، وكنت أقرأ القصيدة في قاعة ممتلئة بالناس..
لذلك كنت متحرجاً في البداية وبدأت بالتدرج، بتسريب هذه القصائد، فنشرت خمس قصائد منها كتجربة في جريدة "السفير"، وانتظرت ردود الفعل، فسمعت ردود فعل إيجابية، فنشرت القسم الأول منها في مجلة "أخبار الأدب" في القاهرة على قسمين، في إطار "البستان"، حيث عندهم هناك "باب" بهذا الاسم مع صور تزيينية. ونشرت القسم الثاني في المجلة نفسها، ثم قلت انه لا بد من جمعها في كتاب، وهكذا.
لم أواجه إشكالات دينية، بل على العكس جرى التعامل بكثير من الحب والتفهم للرمز. حتى الآن لم تواجهني مشكلة.. على العكس حين أقرأ من "شيرازيات" في الندوات الشعرية، ألاقي أجمل صدى، لكنني مضطر لإيضاح أن هذه الثنائية هي ظاهر، أما الباطن فواحد، وأن الخمرة ليست الخمرة الحسية، فهي نشوة نفسية، وهذه ربما في ايران أنت لست بحاجة اليها، لأن الثقافة الشعبية هناك مشبعة بهذا الأمر، أما في ثقافتنا العربية التي هي ثقافة ثنائيات، فالأمر مختلف، لأن للعامة ثقافتها الظاهرية، وللخاصة ثقافتها الباطنية.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018