ارشيف من : 2005-2008

رمضان "اليوم" ورمضان "البلاد" في عيون المهجّرين الفلسطينين..

رمضان "اليوم" ورمضان "البلاد" في عيون المهجّرين الفلسطينين..

رمضان "اليوم" ورمضان "البلاد" في عيون المهجّرين الفلسطينين..‏‏

البلاد كانت واسعة وكل شيء متوافراً والأمل بدأ يتجدد بتحرير غزة‏‏

الانتقاد/ تحقيقات ـ العدد 1133 ـ 28/10/2005‏‏

فلسطين المحتلة ـ من أحمد أبو عقلين وأسماء أبو ناموس‏‏

ما زالت الذاكرة بالرغم من بُعد المسافة الزمنية تنبض بوحي من قلب التراث، وكأن مجرد إلقاء كلمة يؤجج الأشواق لحفنة سعتر، وكسرات خبز الطابون، وبقايا زيتونة كان يستظل في فيئها، مُخبئاً تحت الوسادة مفتاحاً لم يكن يدرك يوما أنه له مفارق، ذات المشهد لا تختلف فيه التفاصيل، والمكان امتداد لقدسية المشهد، ولكن هذه المرة فوانيس رمضان، والتحضير لحلقات الذكر في المساجد المنتشرة على غير ما اعتاد هناك، والكل بدأ في حجز موعد لوليمته فيما يعرف بـ"العزائم الرمضانية"، الفرق في عيونهم واضح، لكن طيفاً من أمل بدأ يمر أمام عيون اللاجئين، ولا سيما في غزة التي رحل الاحتلال عنها بعد سبعة وثلاثين عاماً من العذاب الذي كان يتجدد أكثر في رمضان.‏‏

الحاجة آمنة أبو وطفة‏‏

بعدما ازدانت بالثوب الفلسطيني كشعار لتراثها الذي بدت معتزة به جداً، بدأت الحاجة "آمنة أبو وطفة" من بلدة نعليا ـ التي احتلت عام ثمانية وأربعين ـ تستذكر بداية هذا الشهر الفضيل قبل ما يقارب الستين عاماً، وتعود لتقارنها بالأيام التي نعايشها، وكأنها توزع نظراتها فتلقي بواحدة هنا، وترسل واحدة إلى حيث كانوا.. هناك: "كنت صغيرة بس كنت واعية لكل شيء بيصير، مش راح أحاول أتذكر لأني ما نسيت أصلا، أيام نعليا كانوا الناس بيعتمدوا على الزراعة كثير، وملهيين في حراثة الأرض، كل الأصناف النباتية كانت موجودة، ولأن في بلدنا كان عدد الناس محدود كثير ما كان في عنا أسواق، بس في المجدل كان في سوق الجمعة كانت الناس تروح عليه من كل المناطق ويتسوّقوا تحديداً الجمعة اللي قبل رمضان، كانوا يشتروا أشياء بسيطة جداً زي "قمر الدين، القطين، التين المجفف، القصب، التمر، الملبّس، الترمس، والبندورة المجففة لأننا كنا نجفف البندورة في موسم الصيف ونخزنها للاستخدام في فصل الشتاء، مش زي هالأيام الناس بتحضر أشياء منوعة "مربى، حلاوة طحينية، جبنة صفراء، عصيرات" كل هالأشياء ما كنا نشتريها زمان لأنه أغلبها كان متوفر من الأرض والأغنام والجمال اللي كنا نربيها وتحديدا عند أهل البادية".‏‏

مدفع الإفطار‏‏

غروب الشمس في أيامنا يعني أن موعد أذان المغرب قد حان، لكن غروبها عن أرض نعليا كان يعني حلول موعد الإفطار أيضا، ولكن بصورة مختلفة، تقول الحاجة أبو وطفة "كان عندنا جوامع في الحارة وكان يرفع الأذان، بس موعد الإفطار تحديدا كنا نعتمد فيه على ضرب مدفع الإفطار اللي كنا نسمعه في كل مكان في البلاد، وطبعا كانوا الرجال الكبار والشباب كلهم يتجمعوا في شق "مقعد" ويفطروا إفطار جماعي طول أيام رمضان، كل راجل كان ياخد أكله من البيت يكونوا سفرة واحدة لكل الحارة، لأنه كل الناس كانت بتعرف بعض والبيوت في البلد قليلة كثير، والسفرة كانت كلها مأكولات شعبية زي "المفتول، أكلات الرز، عنبية، دبس" والأشياء الخفيفة "فول، عدس، بواطي، ذرة بيضاء، قمح".‏‏

حلويات رمضان‏‏

"أحلى من طعم القطايف اللي كانت تعمله أمي في حياتي ما ذقت"، سريعا أجابتنا الحاجة أبو وطفة حينما سألناها عما إذا كان هناك أي نوع من الحلويات الرمضانية كانوا يفضلونها في نعليا، وتضيف "كنا نعمل كثير حلويات بس مختلفة عن حلويات هالأيام شوي، كنا نعمل قطايف بحشوات مختلفة زي الجبنة والزبدة، ومن الحلويات كمان "الزلابيا" وهي عبارة عن عجين من الدقيق والسكر ومغمسة بالقطر".‏‏

وتتسارع الذكريات أمام ناظري الحاجة أبو وطفة فتنتقل بنا للحديث عن ليالي رمضان والسهر حتى وقت السحور، تقول "كان سيدي شيخ بيعلم الشباب والرجال في الجامع، ويدرسهم القرآن الكريم، لأنه على أيامنا كانوا كل الناس أميين، وما كان في مدرسة إلا في الجورة ـ وهي قرية فلسطينية ضمن الأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين ـ أما الصبايا كانوا يلعبوا ألعاب مختلفة زي "اشكح يا دينار، الشريدة، سبسب القرع وأجى خيلي".‏‏

عادات رمضانية‏‏

العادات الفلسطينية راسخة في النفس الفلسطينية رسوخ الجذور في عمق التراب المقدس، وأهالي القرى الفلسطينية كانت لهم عاداتهم الرمضانية التي تنم عن طيب وسمو في الأخلاق، تقول الحاجة أبو وطفة "كانوا الناس يزوروا أرحامهم، كان شهر رمضان مخصص للزيارات بين الأهالي والأقارب، والمعارف، وكنا نعمل "رحمات" على أرواح الميتين، يعني كل واحد مات أحد أقاربه بيعمل أكله على روحه، وبيعزم الحارة عليها، وأهم شغلة إنه الناس زمان كانت كلها قلوبها على بعض، كان الواحد قبل ما ياكل يحسب حساب جاره جوعان ولا شبعان، كانت كل الحارة أسرة واحدة".‏‏

الحاج أبو عوض صالح‏‏

الحاج أبو عوض صالح "78 عاما" من بلدة "بربرة" المحتلة عام ثمانية وأربعين، والذي كان في العشرين من عمره قبل احتلال فلسطين، لم يختلف في وصفه لشهر رمضان في بلدته عن الحاجة آمنة، حيث قال مستذكرا ليالي وأمسيات رمضان في بربرة "كنت في البلاد واعي على كل شيء، في رمضان كانوا الشباب يجمعوا أنفسهم بعد الإفطار ونتجول في شوارع "بربرة" نردد أناشيد رمضان، كانت الناس كلها يد واحدة، قلوبنا على بعض، البيت اللي بيطبخ طبخة بيوزع على كل الجيران".‏‏

ويروي الحاج أبو عوض أن شهر رمضان في بلدته وغيرها من البلدات الفلسطينية التي احتلتها "إسرائيل" عام ثمانية وأربعين كان يعني للناس موسم المحبة والتزاور، حيث يضيف "الناس في بلدنا كانوا كلهم أسرة واحدة، ما كان في بيوت كثيرة، كنا حتى بعد السحور نخرج في الشارع ونجلس في حلقات يحكي كل واحد حكاية حلوة، ونظل حتى تطلع الشمس، كانت البلاد واسعة، ما في حواجز ولا في يهود، نطلع وقت ما بدنا على القرى المجاورة، ونتعرف كل يوم على ناس جديدة".‏‏

نظرة الحاج صالح لرمضان في هذه الأيام تختلف عما حملته ذاكرته عن رمضان في "بربرة" حيث يضيف: الفرق بين رمضان اليوم ورمضان في البلاد واسع، اليوم الناس بتعتبر رمضان حدث عابر، بيغلب عليه طابع المأكولات والأطعمة، وين الناس اللي كانت تتجمع على ضو الكاز وضو القمر، كل واحد اليوم في حاله".‏‏

كما يصف الحاج أبو عوض الحياة في "البلاد" بشكل عام بأنها كانت آمنة مستقرة "ما كنا نخاف من شيء، كان الشباب يناموا طول الليل خارج بيوتهم على الرمل، كل شيء بتطلبه موجود، الفواكه والخضروات بتشم ريحتها من تاني بلد، التين، الزيتون، الشمّام، العنب، الجوافة، الطبيعة الجميلة، وهذا مش موجود اليوم".‏‏

الحاج أبو عودة‏‏

تتشابه حلقات السلسلة القادمة من طيف الذكرى وأمل الرجوع، لتقودنا إلى تجاعيد شكل منها الزمن خارطة جديدة للطريق على وجه الحاج "أبو عودة" من قرية "بطيحة" قضاء بئر السبع أقصى جنوب فلسطين، دفعنا الفضول لسؤاله عن البادية في رمضان، فأطلت علينا عيناه من وراء نظارة ازداد سمكها بزيادة أيام البعد عن الأرض، أخذ نفساً عميقاً ثم قال "وين رمضان اليوم من رمضان زمان؟ ما في وجه للمقارنة بينهم، كل الناس كانت فقيرة ومع هيك الكل بيحب الناس اللي حواليه، أما هالأيام الناس طبقات وكل واحد بيطلع للثاني إنه هو أكبر منه، وما بتلاقي حد يحب الخير لأخوه وأقرب الناس منه، ولا حد عنده صدر واسع لغيره، أقل شيء التزاور وصلة الرحم اللي كانت بين الجيران وأهل القرية اللي الواحد بيقدر يعدهم على الأصابع، أما اليوم الابن بطل ما بيسأل عن أمه وأبوه وإخواته كيف بدو يسأل على جيرانه... يمكن الدنيا اليوم بتختلف عن دنيتنا".‏‏

أكلات البادية الرمضانية‏‏

يحدثنا الحاج أبو عودة عن طبيعة الأطعمة التي تتفرد فيها البادية في رمضان تحديداً يقول "كنا نعمل الهيطلية (لبن + قمح)، فتة الصاج، والمفتول زي كل البلاد الفلسطينية، بس اللي بيختلف عنا في بئر السبع إنه ما كنا بنعرف الفرانات، ولا حتى (فرن الطينة)، كنا نعتمد على الخبز الصاج وكانت المرأة تخبز لكل وجبة في حينها، يعني لوجبة السحور كانت تخبز بالليل، ولوجبة الإفطار تخبز قبل ضرب المدفع بشوي".‏‏

وهنا يستذكر الحاج أبو عودة مدفع الإفطار فيقول "ما كان عندنا مساجد في القرية، كنا نسمع ضرب المدفع من غزة ونفطر بناءً عليه، وأحيانا كنا نعرف عن طريق الشمس لما تغيب، وإحنا متعودين كل أمور حياتنا نقيسها على الشمس، لأنه ما كان عندنا ساعات".‏‏

الشمس تخدع‏‏

وبرغم أن الشمس هي الدليل الوحيد الذي كان لديهم إلا أنها في بعض الأحيان تخدع، كالموقف الذي يعرضه الحاج أبو عودة: "في يوم من أيام رمضان كنا قاعدين حول السفرة بنستنى صوت مدفع الإفطار، واختلفنا ضرب ولا ما ضرب، ونفس الوقت حجبت الغيوم قرص الشمس فجزمنا إنه المدفع ضرب، وفعلا أفطرنا، وكانت المفاجأة لما الشمس طلعت تاني من وراء الغيوم، واكتشفنا إنه المدفع لسه ما ضرب وما دخل وقت الإفطار".‏‏

ويأتي شهر رمضان هذا العام كموسم يحل بعد حادث كبير احتفل به الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وهو الانسحاب من قطاع غزة، ليكون أول شهر رمضان يصومه الفلسطينيون وجزء من بلادهم تحرر من نير الاحتلال.‏‏

2006-10-30