ارشيف من : 2005-2008

القدس في الفكر الاسلامي

القدس في الفكر الاسلامي

الانتقاد/ ملف خاص يوم القدس العالمي ـ العدد 1133 ـ 28/10/2005‏

تتعدى قضية القدس حدود القضايا ذات الطابع الشخصي أو تلك التي يغلب عليها السلوك السياسي والعسكري.. لتصل في العديد من أوجهها الى قضية فكرية تتنازع عليها العقائد والتيارات الفكرية قبل السياسية والاجتماعية... حيث لكل وجه هوية وخصائص ونتائج تختلف عن الآخر.‏

قد يحصل النزاع بين أشخاص أو أطراف نتيجة دوافع متعارف عليها فتأتي طرق المعالجة حاسمة موضحة الأسباب والنتائج وكيفية التخلص منها بشكل نهائي وتام. والوضع يختلف عند الصراع الفكري اذا كان الأمر يتعلق بجذور الهوية والوجود الحقيقي الذي يزول بانتفاء مقوماته.‏

وهنا لو عدنا الى حقيقة جلية في مسألة القدس لوجدنا أن الطابع الأساس لها هو طابع فكري عقائدي يدخل في صلب الاعتقادات، ويصبح جزءاً منها بحيث اذا انتفى هذا الجزء أو حصل التغافل والتغاضي عنه فإنه يؤدي الى زوال العقيدة، او يحولها الى عقيدة مشتبهة ملتبسة.‏

ولكن كيف أضحت القدس بهذا المستوى من العقائد والأفكار، وكيف دخلت عالم الفكر والعقيدة؟ المسألة ليست ذات جوانب تاريخية بحتة، فالدخول الى عالم الواقع يبين هذه الحقائق.‏

لقد امتزجت القدس منذ فجر التاريخ بعنوان القداسة الذي أضفته عليها ظروف الأديان السماوية والرسالات "الوحيانية" فغدت محط أنظار المتدينين ومكان الانبياء والمرسلين، ودخلت الصراع الفكري، وغدت أهم نقطة في التجاذبات العقيدية بين الشعوب وأصحاب الأديان.‏

وهنا وللوقوف على بعض القضايا والمفاهيم التي يتجلى بها واقع المسألة لا بد من توضيح الأمور:‏

أولاً القدس ليست مجرد مكان موجود على بقعة جغرافية صغيرة محددة بحدود المكان والجهات، لها تاريخ كسائر التواريخ التي مرت على الأماكن الأخرى، بل لأن القضية تعود في الفكر الاسلامي الى اعتبارها أحد الأسباب والأدوات الأساسية لوصول الفكر الديني وإرساء معالم الحضارة الاسلامية، فالقدس كانت القبلة الاولى للمسلمين، واليها توجه المسلمون بالصلاة، واليها أيضاً أُسري برسول الله (ص) حيث كان بيت المقدس الممر الأساس لحضور الوحي الى الأرض وقيام شريعة السماء، وفيها أيضاً قامت مقامات الأنبياء والعظماء بما يبني حضورهم الفعلي في تلك البقعة.‏

هذه الصورة المختصرة عن هذه البقعة الشريفة تدعونا للوقوف عند أهميتها الفكرية، اذ الأماكن لا تكتسب أهمية وقداسة بمجرد كونها أمكنة الا اذا كان المضمون والمحتوى مقدساً متعالياً. والمكان الذي يشتمل على مضمون كهذا الذي اشتملت عليه القدس لا بد أن يكون محط أنظار الأديان وأصحاب التيارات الفكرية والدينية، والا فإن باقي الأماكن عندما ننظر اليها فإن نظرتنا هذه ستكون محصورة في جوانب الحصول على المنفعة منها سواء الاقتصادية أو العمرانية، أو تلك المنافع التي لا تلبث ان تزول، والأمر يختلف بالكامل عند التوقف عند القدس، حيث تخاطب بوجودها وقداستها فكر الانسان ووجوده.‏

من جهة أخرى قد يمكن التسالم والتصالح أو التهاون في شأن باقي الأماكن التي لا تملك الخصوصيات القدسية، ولكن من الصعب جداً إجراء الأمر في البقاع المقدسة، ومن هنا أضحت مسألة ذات أهمية فكرية غير عادية.‏

ثانياً إن العودة الى تاريخ الصراع على المدينة والأماكن المقدسة فيها تدلل بما لا يدع مجالاً للشك أن الصراع قد أخذ في جميع مراحله طابع الصراع الحضاري او التعبير عنه بشكل أدق صورة الصراع العقائدي والديني. حيث ان كل من ادعى ملكية خاصة في المدينة المقدسة كان يرجع الأمر الى اعتبارها أرض ميعاده أو محل وجود أنبيائه وعظمائه، وبشكل عام كانوا يرجعون الأمر الى جانب غير منظور في الحركات البشرية اليومية ويعتبرونه أمراً الهياً بحتاً.‏

هذا الادعاء ان انطوى على شيء فإنه يوضح حقائق للممارسات العملية، فإذا خرج الصراع من ساحة التجاذبات المادية والمتعارفة الى ساحة الفكر والثقافة والدين فإنه يظهر بصورته الأجلى والأوضح، حيث الصراع بين عقيدتين وفكرين ونهجين، وهذا لا ينتهي الا مع زوال وجود وحلول وجود آخر مكانه، بحيث ان هذه الأمور لا تحتمل المساومة والتهاون والحلول المجتزأة، وهذه من أهم خصائص طبيعة الصراع الفكري.‏

طبعاً المشكلة والقضية بهذا المستوى ظهرت نتيجة عدم فهم واقعي لمجرى الفكر والعقيدة، بالأخص الديني، منها اذ ان الأنبياء والعظماء على مرّ التاريخ كانوا يختصون بالبشرية جمعاء، فدعوتهم كانت موجهة الى الجميع، أما إرثهم فإنه يعود بالطبع الى أتباع مواهبهم من دون نظر الى العرق والنسب او المعايير الأخرى: "ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين" (آل عمران ـ 8) وهي حقيقة شاخصة اذ لا يمكن تحديد دعوة الأنبياء والرسل، حيث يبقى الإرث الحقيقي للأنبياء من حق الذين اتبعوا الرسالة وآمنوا بالوحي.‏

وبما ان القدس كانت مكان توافد وحضور الأنبياء عليهم السلام منذ ابراهيم(ع) وحتى عيسى(ع)، وما كان على مستوى الفكر الاسلامي، فإن تتابع الأمور يبين حقيقة أن الرسالات السماوية كان يكمل بعضها الآخر، ولم تختص كل واحدة بفئة وجانب حيث تأتي الأخرى لتمارس دورها في مجال آخر.‏

ثالثاً: لو عدنا الى ما يتعدى الجانب العقيدي والنظري، ونظرنا الى مجرى الأحداث العملية لشاهدنا محاولات حثيثة لإخراج المدينة من حيّز الاهتمام الفكري، ولعل العنصرية الصهيونية أرادت بهذا العمل ان لا تأخذ القدس مكانتها الحقيقية بين أصحابها، فتسهل عمليات سلبها واغتصابها وإبعاد أصحابها عنها.‏

هنا في هذا الإطار اهتم العالم الاسلامي ولفترات كبيرة بالوضع الموجود في الصراع على القدس، وشكل وجود الإمام الخميني (قدس سره) أهم حلقات هذا الحضور الذي كان الهدف الأساس منه إرجاع القدس كقضية الى مرتبة القضايا الفكرية الأساسية بعدما اجتزأها العنصريون الصهاينة، فنسيها العالم الاسلامي ولفترات كبيرة، فعاد الإمام الى احياء هذه الحقيقة، وأكد أن القدس قبلة المسلمين، وفيه تحذير وتنبيه الى أن الاعتقاد والايمان كل لا يتجزأ، فكيف أكون مسلماً وبعض جوانب عقيدتي يعتريه الشك، فقال: "بيت المقدس ملك المسلمين وقبلتهم الاولى".‏

وبيّن أن هذه المسألة ليست من المسائل الشخصية أو المنحصرة في فئة دون أخرى، بل هي قضية كل المسلمين لأن جذورها تعود الى فكرهم وعقيدتهم، حيث قال: "ليست مسألة القدس مسألة شخصية أو أنها تختص ببلد خاص أو تنحصر بمسلمي هذا العصر، بل هي قضية ترتبط بالموحدين والمؤمنين في العصور القديمة والحاضرة والمستقبلية".‏

وعلى هذا الأساس كان صراع الإمام (قدس سره) مع الاستكبار، وفي مختلف المراحل، وحتى قبل انتصار الثورة الاسلامية، يقوم على اساس اعادة وضع قضية القدس في مكانها الصحيح.‏

ان نداءات الإمام فيما يتعلق بالقدس تبين مدى عظمة وثقل المسؤولية الملقاة بالأخص على عاتق المثقفين المسلمين حيث تأتي ضرورة اعادة صياغة الفهم الحقيقي للقدس، واعادة التأكيد على حضورها في سلّم أولوياتهم العقائدية، وبالتالي العمل على أن تبقى هذه القضية حية في ضمير ووجدان الأجيال الاسلامية، والا كان المثقفون هم المسؤولين والمستسلمين الاوائل، ولساهموا في ضياع هذا الحق.‏

علي الحاج حسن‏

2006-10-30