ارشيف من : 2005-2008
"حقائق هامة حول ليلة القدر في الشريعة الاسلامية"
الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1132 ـ 21 تشرين الاول/ اكتوبر 2005
هي ليلة الرحمة والنور، وليلة نزول القرآن الكريم، ومبدأ الخير والسعادة للبشرية، ونزول البركة، وفيها يُقدر شؤون السنة، وفيها تنزل الملائكة والروح الأعظم بإذن الله.
وهي الليلة التي كانت فيها البشرية غارقة في مستنقع ظلمات الجهل، وغافلة عن السعادة الحقيقية، وتعبث فيها أيادي الغدر والفساد والانحطاط، فأشرق فيها صبح الهداية والنور، ونزل عليها الشفاء والدواء مع نزول أكرم وأعظم الكتب السماوية الى الأبد الذي أوضح الله فيه للناس طرق الهداية، وأنقذهم معه من ظلمة الشرك وعقائد المجوس وخرافات اليهود، وعقيدة التثليث، وقادهم نحو نور العبودية والتوحيد للخالق العظيم.
منزلة ليلة القدر
من الفضائل والكرامات التي تَفضَّل الله تعالى على عباده بها أن جعل لهم ليلة مباركة تحيط فيها الملائكة بالمؤمنين، وتحفهم بالبركات والعطايا، وهي ليلة القدر التي يكثر فيها الخير ولا يضاهيها في الفضل سواها من الليالي.
ومما ورد في فضل ومنزلة هذه الليلة ما رواه صاحب مجمع البيان عن ابن عباس عن النبي (ص) انه قال: "اذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكّان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل فينزل (ع) ومعه ألوية ينصب لواءً منها على قبري ولواءً على بيت المقدس ولواءً في المسجد الحرام ولواءً على طور سيناء ولا يدع فيها مؤمناً ولا مؤمنة الا سلّم عليه الا مدمن الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمّخ بالزعفران".
وعنه (ص) قال: "من قام ليلة القدر ايماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". ويمكن لنا استكشاف منزلة هذه الليلة من خلال مضاعفة الثواب والأجر لأي عمل يقوم به الانسان فيها، فقد حدّث الرسول الكريم عمّا جرى بين موسى (ع) وربه عز وجل في مناجاة جليلة جاء فيها على لسان موسى حيث قال: الهي اريد قربك.
فقال تعالى: "يا موسى، قربي لمن استيقظ ليلة القدر".
فقال(ع): "اريد رحمتك".
فقال تعالى: "رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر".
فقال(ع): "الهي اريد الجواز على الصراط".
فقال تعالى: "ذلك لمن تصدق ليلة القدر".
فقال(ع) "الهي اريد من أشجار الجنة".
فقال تعالى: "ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر".
فقال(ع): "الهي أريد رضاك".
فقال تعالى: "رضاي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر".
لماذا سميت بليلة القدر
ورد في وجه تسميتها بليلة القدر عدّة وجوه وأسباب منها أولاً: لأنها الليلة التي تعين فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، ويشهد على ذلك قوله تعالى: "إنا انزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم" (الدخان 3 ـ 4).
وهذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء في بعض الروايات التي تنص على أنه في هذه الليلة تعيّن مقدرات الناس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، ولذا يقول الطبرسي في مجمع البيان: "سمّيت ليلة القدر لأنها الليلة التي يحكم فيها ويقضى بما يكون في السنة بأجمعها من كل أمر".
وهذا ما وافق عليه السيد الطباطبائي في تفسير الميزان حيث أشار الى ان المراد بالقدر التقدير، هي ليلة التقدير، يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة الى مثلها من قابل من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك. والروايات التي تؤيد هذا المعنى نذكر منها:
عن اسحاق بن عمار عن الامام الصادق (ع) قال سمعته يقول: وناس يسألونه يقولون: الأرزاق تقسّم ليلة النصف من شعبان قال: فقال: لا والله ما ذاك الا في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان واحدى وعشرين وثلاث وعشرين، فإن في ليلة تسع عشرة يلتقي الجمعان وفي ليلة احدى وعشرين يفرق كل امرٍ حكيم وفي ليلة ثلاث وعشرين يمضي ما اراد الله عز وجل من ذلك، وهي ليلة القدر التي قال الله عز وجل: "خير من ألف شهر".
ثانياً: ان معنى ليلة القدر أي ليلة الشرف والخطر وعظم الشأن من قولهم رجل له قدر عند الناس، اي منزلة وشرف ومنه: "ما قدروا الله حق قدره" (الحج 74)، أي عظّموه حق عظمته.
ثالثاً: انها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم، لأن القدر جاء بمعنى الضيق كقوله تعالى "ومن قدر عليه رزقه" (الطلاق 7).
فمن فضلها الرفيع وشأنها المنيع ان تكون مورداً لهبوط الملائكة المقربين كما قال تعالى: "تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر".
رابعاً: أنها الليلة التي من أحياها نال قدراً ومنزلة.
خامساً: انها الليلة التي للطاعات فيها قدر عظيم وثواب وجزيل.
اية ليلة هي ليلة القدر
لا شك ان ليلة القدر هي من ليالي شهر رمضان، لأن الجمع بين آيات القرآن يقضي ذلك، فالقرآن نزل في شهر رمضان من جهة (كما في سورة البقرة الآية 185) ومن جهة أخرى تقول آيات سورة القدر انه نزل في ليلة القدر.
ولكن السؤال: أية ليلة هي من شهر رمضان؟ قيل في ذلك الكثير، كما ذكرت تفاسير عديدة ذلك ومنها: انها أول ليلة في شهر رمضان، الليلة السابعة عشرة، الليلة التاسعة عشرة، الليلة الحادية والعشرون، الليلة الثالثة والعشرون، الليلة السابعة والعشرون والليلة التاسعة والعشرون.
والمشهور في الروايات الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته الأطهار انها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتحديداً في الليلة التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين او الثالثة والعشرين.
لذلك ورد في الروايات ان النبي (ص) كان يحيي كل الليالي العشر الأواخر من الشهر المبارك بالعبادة.
وما ذكرناه تؤيده الروايات والتي فيها ان الامام الصادق (ع) سُئل عن هذه الليلة فقال(ع): اطلبها في تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين.
والأقوى في الروايات انها في ليلة احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين. فعن أبي حمزة الثمالي قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة التي يرجي فيها ما يرجى ؟ فقال(ع): في احدى وعشرين او ثلاث وعشرين قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب، قلت: فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض اخرى فقال: ما أيسر اربع ليال تطلبها فيها، قلت: جعلت فداك ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني، فقال: "ان ذلك ليقال. اما في ليلة الجهني فهي اشارة الى ما رواه الصدوق عن زراره عن احدهما قال: سألته عن الليالي التي يستحب فيها الغسل في شهر رمضان. فقال: ليلة تسع عشرة وليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وقال: ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني، وحديثه انه قال لرسول الله (ص): ان منزلي نأى عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث وعشرين، ثم قال الصدوق: واسم الجهني عبد الله بن أنيس الانصاري.
لماذا خفيت ليلة القدر
ولعلنا نسأل عن السبب في عدم تعين تلك الليلة بوقتٍ محدد وزمان معين، فما هو السر في خفائها واخفائها؟
الاعتقاد السائد والمشهور هو ان اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة، او بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود الى توجيه الناس الى الاهتمام بجميع هذه الليالي.
فليس بعيداً ان يكون اخفاؤها امراً مقصوداً، وان الغرض الشرعي اقتضى عدم تعيينها في ليلة مخصوصة وذلك تعظيماً لأمرها، وكي لا يستهان بها بارتكاب المعاصي أو يستهان بغيرها من الليالي والأوقات.
وبهذا صرّح الامام علي بن ابي طالب(ع) حيث ورد أنه قيل له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن ليلة القدر؟
فقال (ع): ما أخلو أن أكون أعلمها، ولست أشك ان الله انما سترها عنكم نظراً لكم، لأنكم لو أعلمكم بها عملتم فيها وتركتم غيرها، وأرجو ان لا تخطئكم ان شاء الله.
لماذا هي خير من الف شهر
ذكر المفسرون في بيانهم لمعنى ذلك بأن المراد بكونها خيراً من ألف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة، وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس الى الله، فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة الف شهر.
وان شئت قلت: ان الطاعة فيها اي طاعة كانت تعدل في المثوبة الف طاعة مثلها، وهذا ما يتوافق مع بعض الروايات التي ورد فيها هذا التعليل، كما عن الإمام الصادق (ع) أنه سئل: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟
فقال(ع): العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وفي بعض الروايات... العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير، خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولولا ما يُضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا، ولكن الله يضاعف لهم الحسنات بحبنا (أهل البيت).
وهناك تفسير آخر ذُكر لمعنى كون ليلة القدر، خيراً من ألف شهر بأن المراد بذلك هو في مقابل مدة حكم بني أمية الذي دام ألف شهر.
كما ونشير في ختام هذا البحث الى انه يُفهم من ظاهر الآيات في سورة القدر أن ليلة القدر ليست خاصة بزمان نزول القرآن، وعصر الرسول (ص)، بل تتكرر كل سنة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا ما أيده الفيلسوف العلامة السيد الطباطبائي في تفسير الميزان حيث ذكر بأنه لا وجه للقول بأنه كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير ان تتكرر.
فهذه الفضائل والمنازل العظيمة والجليلة لليلة القدر تدفع المرء نحو استغلال هذه الفرصة الثمينة للعمل والعبادة فيها.
الشيخ خليل رزق
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018