ارشيف من : 2005-2008
الإمام علي (ع) في مواجهة الفتنة الأولى
الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1131 ـ 21 تشرين الاول/ اكتوبر 2005
تعتبر مرحلة رحيل رسول الله (ص) من أكثر المراحل حساسية في تاريخ العالم الاسلامي. واذا كان يعتقد البعض في تلك المرحلة ان الأمة الاسلامية قد وصلت الى مستوى عالٍ من النمو والتقدم على المستويات الثقافية والسياسية والاخلاقية وغيرها، بحيث تنتفي الحاجة الى وجود قيادة تتمكن من مواصلة رسالة الرسول (ص) فهذا مما عارضته الشواهد المحيطة بالمجتمع آنذاك.
ان قراءة سريعة للأوضاع المحيطة بالمجتمع الاسلامي تبين مقدار الفقر الفكري والثقافي الذي كان يسيطر على جميع مرافقها بحيث ان عشرات السنين لا تكفي للخروج من هذه الحالة، عدا عن تجذر ورسوخ الفكر والثقافة والعادات التي ما زالت مستوحاة من المجتمع الجاهلي، والتي كانت تمنع نفوذ الأفكار السليمة والثقافة الصحيحة، وبالتالي تبعد امكانية الاستقلال والاكتفاء الفكري والثقافي.
في الجانب الآخر نلاحظ التشتت الذي كان يسيطر على المجتمع العربي، وابتعادهم عن مصدر الوحي والمعارضة التي كان يقودها بعض رؤساء القبائل والطوائف بحيث انهم لم يقتربوا من دعوة رسول الله (ص) ولم يقبلوا رسالته، بالاضافة الى أن الرسول (ص) والمسلمين قد أمضوا فترة طويلة في مواجهة المؤامرات التي كان يحيكها البعض في الخارج والداخل من خلال رواج حالة من النفاق.
كل هذه الأمور تحملنا على الاعتقاد بأن متابعة رسالة الاسلام لا بد أن تعتمد على أشخاص يملكون القدرات التي كان يملكها الرسول (ص).
واذا كانت الحقبة التاريخية المحيطة بالأحداث آنذاك قد أغفلت أو أغفل البعض فيها شأن المواصفات الحقيقية للخليفة وللمتصدي لرسالة الاسلام، فإن شخصية الإمام أمير المؤمنين (ع) قد برزت وتجلت فيها القيم الأساسية الصحيحة لخليفة الرسول (ص).
لو عدنا الى الفترة القصيرة من حكم الإمام علي (ع) ودققنا في ماهية هذه الحكومة لطالعتنا عناوين ومفاهيم تشكل الأساس لأي حكومة ولأي ممارسة حكومية وللوظائف والمسؤوليات الملقاة على عاتق كل من الحاكم والموظف والشعب.. وتبين الأدوار المتبادلة والأساسية التي يجب توافرها للوصول الى الهدف المنشود.
في البداية كان على الإمام علي (ع) أن يبين الخطوط والأهداف الرئيسية لوجود الحكومة، واذا كان الهدف من التشريع هو إيصال الفرد والمجتمع الى مستوى الكمال الالهي، وبالتالي المعرفة الحقيقية بالواجبات والممنوعات، والاطلاع على حقائق الأمور، فإن نشاط الإمام في هذا الجانب قد أخذ حيزاً كبيراً، وهذا ما نلاحظه في خطبه ومواعظه التي كان يشدد فيها على ضرورة أن نعرف الواقع الموجود، وما هو الهدف المطلوب، ولماذا نحن نعمل في هذه الدنيا، وما هي الغاية من الوصول الى الرئاسة... والعديد من الأسئلة التي نجد أجوبتها في عبارات الإمام علي (ع).
واذا اتضح الدور والواقع فلا بد من تبيين الطريق الأمثل للخروج منه والوصول الى المطلوب، وهنا تستوقفنا رسالة الإمام (ع) الى مالك الأشتر التي هي في الواقع نظام دستوري متكامل يبين ويوضح كل التفاصيل المتعلقة بالحكومة والمسؤوليات على اختلاف أشكالها. وتستوقفنا أيضاً السيرة الذاتية للإمام (ع) حيث لا شك في أن الإمام كان يتمتع بأعلى درجة من التقوى والمعرفة والقرب الى الله والإحساس بما تعاني منه الرعية، لا بل والعمل على عدم ترك الأمور على ما هي عليه، فللفقير حقه الذي ان أنصفه الغني لما وصل الى ما وصل اليه، وعلى الغني واجبات وعلى الجميع مسؤوليات محددة مبينة. والحديث عن السيرة الذاتية فيها الكثير والكثير من التفاصيل التي تبين القائد المثالي والحقيقي قد لا يتسع المجال لذكرها.
ثم في ذروة هذا الواقع كان على الإمام (ع) أن ينزل بالاسلام والشرع الى أرض الواقع، وهذا يحتاج الى معرفة دقيقة بالواقع وما يعاني منه، واطلاع على شبهات المشككين وحملات المغرضين، والدفاع عن الرسالة والوحي بما يملكه الاسلام من قوة ومتانة في الاستدلال، وبما يقدمه من برامج ترتقي بالانسان والمجتمع الى أعلى المستويات.
ولعل هذا الأمر لم يستهو الكثيرين في زمن الإمام فعارضوه وخالفوه وحاولوا ايجاد كل أنواع العقبات التي تؤدي بالنتيجة الى عدم الوصول الى الأهداف المنشودة في الوحي.
وهنا ركز البحث على أهم العقبات التي واجهت حكومة الإمام علي (ع):
1 ـ المشكلات التي كانت تقف أمام اجراء العدالة الاجتماعية
لعل حرب الجميل هي أبرز مظاهر الفساد الاجتماعي الذي سعى الإمام (ع) الى تغييره والقضاء عليه، حيث وجدت هذه الحرب بسبب اصرار الإمام (ع) على اقامة العدالة الاجتماعية، وهذا ما لم تواجهه الخلافة في عهودها السابقة على حكومة الإمام علي (ع)، فأموال بيت المال كانت تقسم على أساس القرابة والنسب والعرق، وهذا لم يجد له الإمام (ع) أي مخرج شرعي باعتبار أن العرق والنسب والمهاجر او الانصاري.. ليست من الملاكات الصحيحة التي يتم على أساسها تقسيم المال بين المسلمين. حتى وصل الأمر الى أن يلوم الإمامَ علياً (ع) مَن كان بايعه بالأمس، ذلك لأنه لم يأخذ بالحسبان الاعتبارات المصطنعة.
2 ـ مواجهة الإمام للفوارق العرقية
انتشرت في فترات سابقة على حكومة الإمام علي (ع) مسألة التفريق بين المسلم العربي والمسلم غير العربي، وبين من أسلم قبل الفتح ومن أسلم بعده، فكان نصيب العربي من عطاءاتها يخالف ويفوق نصيب المسلمين الآخرين، وهذا ما وجد فيه الإمام مخالفة صريحة للدين ولقيم العدل والانصاف. وقد أشار اليعقوبي في تاريخه لهذا الأمر في أماكن عديدة.. وأعطى الناس بالسوية ولم يفضل أحداً على أحد، وقيل له في ذلك، فقال: "قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد لولد اسماعيل على ولد اسحاق فضلاً..."(تاريخ اليعقوبي، ج2،ص183).
3 - مواجهة الإمام للانحرافات الدينية
سعى الإمام (ع) جاهداً لمواجهة الانحرافات الدينية التي شاعت آنذاك، وكان العنوان الأبرز في حركته الالتزام بالدين والوحي وسنة الرسول(ص)، والابتعاد عن اخضاع الأصول والقواعد الدينية للمصالح الفردية، حيث طغت بعض الأفكار، فقام البعض بمنع سهم المؤلفة قلوبهم المنصوص عليه في القرآن.
وفي هذا الخصوص نهض الإمام لمواجهة من يعمد الى تفسير القرآن وتشريع أحكامه بناءً على رأيه الخاص وعقيدته الشخصية، حيث كان هذا الأسلوب من أهم الوسائل التي أظهرت القرآن الكريم وكأن فيه تناقضاً. وفي هذا الصدد أيضاً كانت محاولات وضع الأحاديث والافتراء على رسول الله (ص) حيث نهض الإمام لمواجهتها بقوة، وكان الرسول (ص) قد نهى عن مثل هذه الأعمال "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده في النار" (أصول الكافي، ج1، ص62).
4 ـ مواجهة الفساد الداخلي
لقد ساهمت الغنائم الكبيرة التي كانت تصل الخلافة آنذاك الى شيوع روح الابتعاد عن الدين والتوجه الى الدنيا بكل ما فيها من ثروات ومكاسب وغنائم، والابتعاد عن القيم الاخلاقية التي هي أهم علامات صلاح المجتع، وقد أشار الإمام عليه السلام الى هذا الوضع في عبارات كثيرة كان خلالها يصف الواقع ويحاول المعالجة: "ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه" (نهج البلاغة، صبحي الصالح،ص57) حيث وضح الإمام أن سبب شيوع هذه الروح هو العودة الى الجاهلية بعد الاسلام، وأن الايمان الرائج ايمان ظاهري. حتى قال(ع): "ولكنا انما اصبحنا نقاتل اخواننا في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل (شرح ابن ابي الحديد، ج7، ص289).
وقد ساهم هذا الوضع الداخلي في صعوبة اختيار وانتخاب الأشخاص الصالحين لقيادة المجتمع...
5 ـ الولاة الفاسدون
من أهم المشكلات التي واجهت الإمام (ع) وجود مجموعة من الولاة الذين حكموا الأقاليم الاسلامية من الذين كانوا إما من غير المتدينين والفاسدين عملياً، أو من الاشخاص الذين لم يؤمنوا في الأصل لا بل والمرفوضين من قبل الرسول(ص)، أو من الذين اعتنقوا الاسلام لمصلحة ما، وعندما سعى الإمام لاستبدالهم بالصالحين الاكفاء نهضوا في وجه الإمام(ع). ولعل حكومة الشام آنذاك أهم مصاديق هذه الحالة حيث جمعت الى اطرافها وأكنافها كل من خالف الإمام، ومن اشتهر بمخالفته للدين وللرسول(ص)، حتى وصلت الأمور في النهاية الى أن يخوض الإمام بعض الحروب، في مواجهة هذه الفئات.
الخلاصة ان الإمام(ع) كان الاختيار الالهي لمنصب تحكمه قيم الوصي بكل تفاصيلها، تجسدت في شخصية معالم الرجل المثالي من حيث السلوك والفكر والتدبير، ولعل ما كانت تحمله هذه الشخصية من قيم كان يخالف السنة الحاكمة على طبيعة كبرت ونمت على اخرى، لذلك كان على الإمام وعلى شيعته ان يواجهوا كماً كبيراً من الصعوبات والمشكلات التي سيؤسس التغلب عليها بالتأكيد لقيم الحق والعدالة والانصاف. وما ذكرناه هو اطلالة مختصرة على جوانب هذه الشخصية على المستوى السياسي والعملي لعل في ذكره تذكيراً لأنفسنا.
علي الحاج حسن
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018