ارشيف من : 2005-2008

شهر ضيافة الله

شهر ضيافة الله

بقلم : الشيخ مصطفى قصير‏

فيما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن علي "أن رسول الله (ص) خطب في آخر جمعة من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب... إلى آخر الخطبة".‏

سنتوقف قليلاً عند دعوة المولى عز وجل المؤمنين إلى ضيافته في هذا الشهر، لنرى كيف تكون الضيافة وما هي الآداب والشروط الخاصة لهذه الضيافة؟‏

مفهوم الضيافة عادة يرتبط بالوفود والإقبال والنزول عند المضيف، ومن الواضح أن العبد يعيش دائماً بين يدي الله في دائرة ملكه وسلطانه ويتنعم بنعمه في جميع أحواله، لا يتصور الخروج عن ذلك، ما يطرح السؤال عن كيفية تحقق الوفود على الله والدخول في ضيافته، وكيف يختص زمان معين بالضيافة كما في الخطبة المتقدمة للرسول (ص)، أو مكان معين كما في البيت الحرام الذي يحل فيه الحجيج في ضيافة الرحمن على ما عبرت بعض النصوص؟‏

الوفود على الله تعالى ينطلق من حالة الإقبال القلبي والتوجه وسلوك الطريق المؤدي إلى طاعته، والمطيع يفوز بالرضا ويتحقق بذلك القرب، "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون"، يتقرب العبد بالطاعة وبالعمل الصالح وبالدعاء والمناجاة فينال درجة المقربين، والقريب له حظوة وكرامة، وليس هو القرب المكاني لأنه تعالى لم يبتعد بالمسافة ليقترب بعد ذلك، وإنما القرب المعنوي المفضي إلى الدخول في الرحمة واللطف والمنزلة والكرامة.‏

ولذا كانت الضيافة الزمانية (شهر رمضان) أو المكانية (حج بيت الله الحرام) مرتبطة بعبادات ونسك خاصة تنتقل بالإنسان من حالة الغفلة والابتعاد إلى حالة الذكر والاقتراب والسفر الروحي إليه تعالى. ومن مظاهر رحمته ورأفته ولطفه بعباده أن فتح لهم باب الوفود عليه بعد ابتعادهم، والعودة إليه بعد إعراضهم، ولم يغلق أمامهم أبواب التوبة والمغفرة.‏

ومن هنا ندرك أن هذه الضيافة لا يقدّم فيها الطعام والشراب وإنما يقدّم فيها ما هو أعظم وهو التوبة والمغفرة والرحمة والكرامة وقبول الأعمال واستجابة الدعاء والأجر المضاعف على العمل الصالح.‏

وأما آدابها فهي أيضاً تتناسب مع طريقة الوفود وطبيعة الموفود عليه، وهو الذي ينظر إلى القلوب وليس إلى الصور والمظهر الخارجي للوافد فحسب، ويعرف النيات ويطلع على السرائر، الأمر الذي يستلزم أن يعمد المتهيئ للوفود على الله إلى قلبه فيغسله بماء التوبة ويزيل منه كل آثار الخطايا والذنوب، ويمحو ظلماته بأنوار اليقين والمعرفة، ويطيّبه بالمحبة والإخلاص، ويصفيه مما علق به من حب الدنيا لأن حب الدنيا يبعد الإنسان عن خالقه وبارئه الذي خلقه للآخرة وجعل الدنيا طريقاً ومزرعة لها، ويزيل عنه كل غشاوة تمنعه من النظر إلى ملكوت الباري ورؤية عظمته، بذلك نرجو أن تفتح لنا الأبواب وندخل في ضيافة المولى.‏

شهر رمضان المبارك فرصة عظيمة لمن يريد أن يعيد تصحيح مساراته وترميم علاقته مع خالقه وبارئه، حيث انه تعالى خص هذا الشهر بكرامة تميزه عن بقية الشهور ليقبل المؤمنون فيه عليه، ويعودوا إلى ساحة رحمته، وسلوك طريق رضوانه ومغفرته، ووعدهم فيه بالتوبة والمغفرة، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، وهو المعرض بقلبه عن ربه، والمستغرق في لذات الدنيا والواقع في أسر الشهوات والهوى، والمتبع لخطوات الشيطان، فإنه تعالى لا يحرم أحداً من غفرانه إلا إذا كان هو الذي يحرم نفسه بالامتناع عن التوبة وعن الاستجابة إلى النداء الإلهي.‏

ومن آداب الوفود إلى ضيافة الله أن لا نُقبل عليه وفي رقابنا من الحقوق المادية والمعنوية له تعالى ولعباد الله ما نطالب به ونحاسب عليه، فأداء الحقوق دليل صدق التوبة، وهو من شرائط القبول، كما أن الاهتمام بأهل طاعة الله من الفقراء والمساكين وغيرهم من الرفقاء في طريق السلوك إلى الله تعالى يدخل في آداب التهيؤ لضيافة الله تعالى.‏

اللهم وفقنا لصيامه وقيامه وتقبل عملنا واغفر لنا ما تقدم وما تأخر من ذنوبنا واجعلنا من أهل السعادة ببلوغ رضاك ولا تجعلنا من أهل الشقاء الذين يحرمون بركات هذا الشهر الشريف‏

والمبارك.‏

الانتقاد/ مقالات/ العدد 1131 ـ 14 تشرين الاول/ اكتوبر 2005‏

2006-10-30