ارشيف من : 2005-2008
الصوم بمعناه الحقيقي
الانتقاد/ رمضانيات ـ العدد 1130 ـ 7 تشرين الاول/ اوكتوبر 2005
الصوم فريضة من الفرائض التي تقوم بدور أساسي وكبير في استجابة المؤمن لإرادة الله سبحانه وتعالى، لما فيه خيره وصلاحه في الدنيا وفلاحه في الآخرة، وقد عدّها الإمام الصادق (ع) من أركان الدين بقوله: "بُني الإسلام على خمس: الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج والولاية"، لكنها، وللأسف، لا تمثل في بنية شخصية الفرد المسلم سوى بمكانة ثانوية، الأمر الذي جعل من حضورها في حركة تعبّده لله تعالى حضوراً ضعيفاً، بل قل باهتاً لا يختلف في كثير وقليل عن أي "تكليف شرعي" آخر مما لا يحتاج المكلف لأدائه على الوجه الشرعي الصحيح سوى العودة الى "الرسالة العملية"، والاطلاع على الكيفية الخاصة بهذا الأداء. تماماً مثلما يفعل ـ على سبيل المثال ـ إزاء أعمال الوضوء والطهارة ولباس المصلي وموضع سجوده، أو تكفين الميت ودفنه وسواها مما يصطلح عليها "بالأعمال العبادية". أي الأعمال التي يكفي المكلف ـ تبرئة لذمته شرعاً ـ أن يأتي بها تعبداً وامتثالاً لأمره تعالى فقط، من غير حاجة الى التفقه في أمرها لإدراك المعاني والمغازي التي تنطوي عليها.
إن هذا النحو من العلاقة مع فريضة الصوم أدى الى تقزيم شأنها بدرجة عالية، لتتحول مع الأيام الى مجرد طقس أجوف يقبل عليها المؤمن عندما يقبل، بروح باردة صماء تخلو من أي انفعال أو تفاعل، ما يحرمه من قدرتها الهائلة على ترقّيه روحياً على درب الايمان والهداية.
لا شك في أن فريضة الصوم على حقيقتها وفي جوهرها لهي أسمى من هذا بكثير وأعظم خطراً في حياة الانسان ومصيره. هذه الفريضة التي عدّها الصادق (ع) أحد أركان الدين، قد كشفت عن كنهها سيدة نساء العالمين بأفصح تعبير وأبلغه، كان ذلك عندما خاطبت أبا بكر في جمع من المسلمين في الأيام الاولى لخلافته، قالت فيما قالت: "ففرض الله عليكم الايمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم من الكِبْر، والزكاة تزييداً في الرزق والصيام تثبيتاً للاخلاص". وما هو الاخلاص؟ الاخلاص هو كمال التوحيد كما علّمنا أمير المؤمنين عليه السلام، "... وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له"، ويعني أن لا يأتي المؤمن بقول أو فعل إلا فيما يحب الله ويرضى. وهل العبودية لله سبحانه بأعلى درجاتها غير هذا. هذه العبودية جعل الله سبحانه الصيام قنطرة المؤمن نحوها عبر مطية التقوى كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
هذه حقيقة الصوم، وهذه أبعاده الروحية، فأين منها ما اصطلح على تسميته "بالعبادات"، ولأجل ذلك فرضه الله فرضاً ولم يدعه مع سائر أحكام الدين الأخرى التي دعانا اليها على سبيل النصيحة والارشاد حيث يعود الخيار في امتثالها لارادة المكلف واختياره "إنا هديناه النجدين إما شاكراً وإما كفورا". ويوضح أمير المؤمنين (ع) هذا بقوله: "ان الله أمر تخييراً ونهى تحذيراً".
ونحن على ابواب شهر رمضان المبارك، لنبسط القول في فريضة الصوم شيئاً ما، لعلّنا ندرك أبعاد هذه المعاني.
الامساك عن الطعام والشراب بكيفية محددة من شأنه بعث التقوى في نفس المؤمن أو تعزيزها على درب العبادة الخالصة لله تعالى؟! يبدو الأمر للوهلة الأولى مستغرباً، ربما، ولكن هذه هي الحقيقة التي نطقت بها النصوص الدينية، لنر فيما يلي كيف يكون ذلك.
روي ان الرسول الأكرم (ص) سمع امرأة صائمة تسب جارية لها فدعاها لتناول الطعام. فأبت وأخبرته بصومها فقال(ص) لها: "كيف تكونين صائمة وقد سَبَبْتِ جارتك؟ ان الصوم ليس عن الطعام والشراب، وانما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول... ما أقل الصوّام وما أكثر الجوّاع". الصوم بمعناه الحقيقي اذاً، ليس عن الطعام والشراب، وانما هو عن الفواحش.
الاحاديث التي تعضد هذا المعنى عن طريق الرسول الأكرم (ص) وأهل بيته كثيرة نذكر بعضاً منها توضيحاً وترسيخاً لما تقدم.
عن سيدة نساء العالمين قولها: "ما يصنع الصائم بصيامه اذا لم يَصُن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"، وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ. وكم من قائم ليس له من قيامه الا السهر والعناء". وعن الامام الصادق (ع): "اذا أصبحتَ صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع اعضائك عن القبيح"، وعنه أيضاً (ع) في حديث مستفيض يعدد فيه ما يحسن اجتنابه اثناء الصيام من الحرام والقبيح، أو الإقبال عليه من الحلال والعمل يختم فيقول: "فإذا فعلت ذلك كله فأنت صائم لله بحقيقة صومه، صانع لما أمرك، وكلما نقضت منها شيئاً مما بيّنت لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك".
لنعد الى ما كنا فيه ونسأل: اذا كان الصوم بمعناه الحقيقي هو ما عرفنا، فكيف يمكن له أن يتحقق واقعاً؟ كيف يمكن لهذا الفعل ـ الامساك عن الطعام والشراب ـ أن يشكل بنفسه مثل هذا الحجاب الذي يضربه الله على سمع الصائم وبصره وجوارحه؟ بل ما هي طبيعة هذا الجسر الذي تعبر عليه النفس من حالة الامساك عن الطعام الى حالة الامساك عن الحرام؟ وأين يكمن هذا الحبل السرّي الذي يغذّي النفس ورعاً وتقوى، فيما هو نفسه، وفي الوقت عينه، يمنع عنها غذاء البدن وهو آلتها؟
إن هذا الإشكال الذي يفيض بالغموض والحيرة اللذين توحي بهما هذه الأسئلة، لهو أشد بساطة ووضوحاً مما يُخيل اليك، والجواب يكمن في تجربة الصوم بالذات، ان تجربة الصوم وبشكل تلقائي ومباشر تضع الصائم وجهاً لوجه أمام الحقيقة التالية: ها أنت ايها المؤمن، أصبحت صائماً عن الطعام امتثالاً لأمر مولاك، وشهوة النفس إليه كما لا يخفى لا يدانيها شيء في شدتها ووطأتها عليك. فما بالك والحال كذلك، لا تمتثل لأمره تعالى وتصوم عن الآثام؟ كيف تمتثل لأمر مولاك وتمسك النفس عما هو مباح لك، ولا تمتثل لأمره فتمسكها عما هو محظور عليك؟ لئن يمارس المؤمن بنفسه فعل الامساك عن الطعام والشراب على غير عادته التي اعتادها في تناول أي منهما ساعة يشاء من النهار. ولئن يباشر المؤمن التجربة هذه بنفسه ويعيش آثارها بأحاسيسه ومشاعرة، سيجد فيها دون شك مناخاً عبادياً مشجعاً، وقوة دفع معنوية محفّزة يتظافران على احداث عملية انعاش روحية طارئة لقلبه، ما يبعثه على النهوض من غفلته لاستئناف المسير مجدداً باتجاه ربه ومالك رقّه الذي لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، فمن يعمل منكم عملاً صالحاً من ذكر أو أنثى لا يضيع عنده، ولو كان بمقدار حبة من خردل. انه لا يضيع أجر المحسنين.
ان عملية الإنعاش الروحي الذي تحدثه تجربة الصوم في قلب الصائم لن تؤتي أكلها باستعادة الصائم لعافيته الروحية ولو تدريجياً في صوم يوم أو يومين. ذلك أن تغيير ميول النفس واتجاهاتها يحتاج الى فترة ترويض يعتد بها. من هنا قضت حكمة الله تعالى أن تمتد فريضة الصيام على مدى ثلاثين يوماً متتابعة.
لا نقول، ان صوم شهر رمضان بالكامل سوف يؤدي حتماً الى استعادة النفس لتقواها بالتمام والكمال، لكن نقول: ان من يصون نفسه ثلاثين يوماً متتالية مع مراقبتها ومحاسبتها كلما تعثرت وسقطت في ذنب هنا أو ذنب هناك، مجدِّداً العزيمة على الاقلاع من جديد، يفعل ذلك مرّة بعد مرة، لا شك انه، وان لم يأت عليه شهر رمضان وقد تحصّنت نفسه تماماً من هذه الموبقة أو تلك، فإنه سيمتلك ازاءها مناعة كان يفتقدها من قبل. وفوق هذا، فإنه سيتسلح بهذه المناعة لما بعد شهر رمضان في كل مرة يقف فيها من جديد وجهاً لوجه امام مغريات الدنيا وشهواتها. والأهم من كل ذلك أنه سيكتسب روح التصدي لتلك المغريات، هذه الروح التي ستصاحبه جنباً الى جنب مع تلك المناعة الى حيث شهر رمضان من العام التالي، حيث ستتعاظم مناعته الروحية عاماً بعد عام حتى يتمكن ذات يوم بفضل الله تعالى ورحمته من الالتحاق بزمرة المتقين.
"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
إسماعيل زلغوط
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018