ارشيف من : 2005-2008

شهر رمضان وإطعام الطعام

شهر رمضان وإطعام الطعام

الانتقاد/ رمضانيات ـ العدد 1130 ـ 7 تشرين الاول/ أوكتوبر 2005‏

شهر رمضان موسم للعبادة وللتقرب الى الله، وهو فرصة لتدارك ما فات من النعم والعطايا وللاستغفار لسالف الذنوب، والتهيؤ والتعبؤ لقادم الايام، وهو شهر ضيافة الله والحلول على مائدته والافادة من سناياه وعطاءاته، وهو سبحانه في الوقت الذي اغدق خيراته في هذا الشهر على عباده أمرهم بالتراحم والتكافل والتضامن والتعاون، ومن جملة ما أمرهم به اطعام الطعام في هذا الشهر، وتفطير الصائمين ومساعدة المساكين، وهذا الامر هو جزء من منظومة الزكاة التي نصّت عليها الشريعة، وكوّنت النصف المكمّل للعبادات وللطاعات المتمثلة بأم الفرائض الصلاة، حيث اننا لو اردنا ان نحدد ركني الشريعة الاساسيين لحددناهما بالصلاة والزكاة "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة"، حيث تختصر الصلاة كل العبادات، وتوجز الزكاة كل المعاملات العبادية، واذا ركزنا على الزكاة وبحثنا في النصوص لوجدنا انها نظام متكامل قائم على البذل لكل ما هو طاقة وجهد ومال في سبيل الله, فزكاة الشجاعة الجهاد، وزكاة المال انفاقه، وزكاة الابدان الصيام، وزكاة العلم تعليمه لاهله، وقد تم التركيز على الزكاة بمعناها الاخص ألا وهو بذل المال وإنفاقه في وجوهه، وهو المعنى المتداول للزكاة، حيث يفهم منه انفاق نسبة من الغلات ومن الاموال في وجوهها المقررة شرعاً، وتتضمن الزكاة بهذا المعنى الخاص جملة سلوكيات مالية ترتبط بالبذل، فإطعام الطعام زكاة ورعاية اليتيم زكاة، ومساعدة المساكين زكاة، والصدقة زكاة، بحيث اننا لو حصرنا مفهوم الزكاة في اطار اخراج المستحقات المالية لبقي المفهوم موسّعاً في عناوين متعددة، منها وعلى رأسها موضوع اطعام الطعام، فلماذا هذا التأكيد والتشديد على قضية الاطعام في القرآن وفي النصوص وفي السيرة؟!‏

فلو أننا تأملنا أولاً الآيات القرآنية لوجدناها تصرح بخطورة المنع للاطعام، وبأهمية الحض عليه حال عدم القدرة على الاطعام، واعتبر الاطعام او الحض عليه من جملة المؤشرات على ايمان المرء ودينه وعقيدته ومبادئه بالرغم من انها سلوك اجتماعي محدد فقال سبحانه في محكم كتابه: "أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين".‏

"ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين .."‏

"خذوه فغلّوه، ثم الجحيم صلّوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، انه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين"،‏

وفي مضامين الروايات الكثيرة:‏

انه "من بات شبعاناً وجاره جوعان، فقد خرج من ملّة الرسول(ص)".‏

وأيضاً في الحديث القدسي ان الله سبحانه لا يغفر له ابداً.‏

وفي سيرة الائمة (ع):‏

التركيز الدائم والمكثف للائمة المعصومين (ع) على ممارسة هذا السلوك الاجتماعي الانساني، وبشكل مباشر، اي ان الامام المعصوم خصوصاً السجاد(ع) كان يقوم بنفسه بهذا العمل حيث كان يوزع الطعام ليلاً على بيوت الفقراء والمساكين.‏

فيتضح من الآيات والروايات والسيرة ان هذا السلوك ذو حضور نوعي في التشريع، خصوصاً في الشق المتعلق بالزكاة، وبما ان له هذه الحساسية تم التأكيد عليه والدعوة اليه، اما لماذا هذا المستوى من التشديد، فلعل ذلك يعود الى علة التشريع وارتباط الاطعام بهذه العلة او بالهدف من التشريع، حيث حدد سبحانه الهدف بأنه قيام الناس بالقسط وبالعدل. هذا القيام الذي يتنافى مع الفقر والعوز المسبب للقعود عادة عن القيام بالمسؤوليات الاجتماعية للانشغال بالحاجات الشخصية، وايضاً فإن الفقر والعوز يتنافيان، مع القسط والعدل ولوازمهما، فإن العدالة الاجتماعية وتأدية المقتضيات المتناسبة معها من قبل الوالي او النظام تفضي الى اقتلاع الفقر وضرب مفاعيله وآثاره، وان اي خلل في العدالة يوسع من الفقر ودائرته، وبالتالي يعزز الآثار التي منها حالة الاضطراب النفسي التي في حال استقرارها فإنها تعبث بالنفس وتخلخل اعمدتها وتهوي بها الى الجحود والعصيان على قاعدة الشعور بالظلم واتهام الخالق والعياذ بالله به.‏

من هنا كانت المسؤولية عظيمة وخطيرة على اصحاب الاموال بأن ينفقوها، وان يطعموا المساكين والضعفاء والفقراء، وان يحولوا دون تفشي الفقر وتبعاته في المجتمع لان ذلك حائل دون التوجه نحو العبودية لله التي هي الهدف من الخلق والوجود، فطالما ان الغاية العبودية وهي لا تتحقق الا بالعدالة، والعدالة تقتضي الانفاق والاطعام، لاجل ذلك اصبحت قضية الاطعام جزءاً موضوعياً وذاتياً من اجزاء نظام التشريع القائم على العبودية عن طريق العدالة.‏

ويتأكد موضوع الاطعام والانفاق في شهر رمضان المبارك حيث الموسم العبادي الذي تتضاعف فيه نتائج الاعمال الحسنة، وحيث محطة التهذيب والتربية للنفس، وهل هناك عامل اكثر اختباراً للنفس وتربية لها من الانفاق والجهاد بالمال، أوليس للمال حضور كبير في النفس وهواها؟ أوليست النفس تميل الى الاحتفاظ به والتغني بامتلاكه؟ اذاً فإخراج المال وإنفاقه يتنافى مع ميول النفس وأهوائها، وها هو طريق التهذيب، وهكذا تتم عملية جهاد النفس بإخراجها من محبوبها وتركها له، فمن اراد في شهر رمضان ان يهذب نفسه ويجاهد هواه عليه ان ينفق المال ويبذله على مستحقيه، وان لشهر رمضان ميزة هامة تتمثل في رقة القلب وخشوع الجوانح، بما يجعل الصائم اكثر قرباً من الفقراء وتحسساً لآلامهم ولاوجاعهم ولجوعهم ولعطشهم بما ينعكس حكماً على روحيته وعلى سلوكه تجاههم، وان الانسان المؤمن مدعو في شهر رمضان ليس فقط الى جهاد نفسه، فيبذل المال، وليس فقط الى تحسس آلام الفقراء، فينفق المال، بل ايضاً هو مدعوّ الى تركيز الاعتقاد الصحيح بأن هذا المال هو مال الله، وهو صاحبه الحقيقي، وهو الذي بيده تحريكه والتصرف به، والانسان مؤتمن على هذا المال، وعليه ان ينتظر اوامر صاحبه الحقيقي لكي يتصرف فيه، وهو اذ يملك هذا المال فإنه يكون وكيلاً وليس اصيلاً، ولذا تم وضع الضوابط في جمع المال وتحصيله وكذلك في صرفه وانفاقه، ولم يكن الانسان حراً في الجمع او في الصرف، وقد اعترض قوم شعيب على هذه الناحية من التشريع حيث قالوا "أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء"، اي اعترضوا على تدخل الشريعة في فرض تقييد حرية التصرف بالاموال، والله سبحانه ذمّ الذين يجمعون المال ويكدّسونه ولا ينفقونه فقال: "ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدّده"، كما انه سبحانه توعّد الذين يكنزون الذهب والفضة بأنها ستحمى في نار جهنم وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وكل ذلك مبني على ان الله سبحانه وهو مالك المال لا يريد هذا المالك ان يتم تخزينه وتكديسه، بل يريد انفاقه وصرفه في الوجوه العقلائية التي تخدم غاية العدالة الاجتماعية التي هي الارضية الصالحة لتحقق العبودية والتوجه الى الله سبحانه، وهي غاية خلق الانسان وايجاده في هذا العالم.‏

بلال نعيم‏

2006-10-30