ارشيف من : 2005-2008

على أبواب شهر الله الفرصة الكبرى للكمالات المعنوية

على أبواب شهر الله الفرصة الكبرى للكمالات المعنوية

العهد/ ثقافة- 1129- 30 ايلول/ سبتمبر 2005‏

يعد شهر رمضان مناسبة هامة وأساسية يغتنمها الانسان المتدين في سبيل التوجه نحو ذاته لتطهيرها وتصفيتها والتوجه بها نحو الله تعالى الذي فرض على الانسان الصيام والعبادة في هذا الشهر، ليكون هذا الفرض مدخلاً وباباً للحصول على العديد من الكمالات المعنوية وغير المعنوية. ولعل الخصوصية التي تميز شهر رمضان على باقي شهور السنة وأيامها أنه المحطة الزمنية الأكيدة والفرصة الكبيرة التي قدمها الخالق تعالى للبشر ليتوجهوا اليه فيعرفوه ويعبدوه، وبالتالي يتمكنوا من الخروج من سلطان الذات والانانية للاطلاع على المكانة المرموقة والعالية لهذا الفرد في التشريع الالهي.‏

والوسيلة الأساس للتوقف عند هذا الشهر بكامل عظمته هي الصيام. فما هو الصيام؟ الصيام في اللغة عبارة عن الإمساك عن الشيء والترك له حتى قيل للصمت صوم، لأنه إمساك عن الكلام، وفي الشريعة الاسلامية الصوم هو العبادة المفروضة من الله تعالى، وهو الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر الى غروب الشمس. في التوقف عند هذه التعاريف والمفاهيم لا بد من الاطلاع على الاجزاء الاساسية التي تؤلف هذه العبادة بحيث يؤدي اجتماعها في الشخص الى القول إنه عابد بهذه العبادة، ومن جملة ذلك المفطرات وأنواعها وآثارها، اذ قد ينصرف الذهن وفي البديهة الاولى الى المفطرات المادية، ولكن الأمر ليس كذلك... والى ما هناك من أجزاء أساسية وضرورية في هذا السبيل. أما حول تشريع الصوم وتبيين فلسفته فيكفي قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة ـ 183) ليتبين لنا الوجوب الأكيد للصيام والآثار المترتبة عليه، وأبرزها التقوى، فالصوم يختزن في داخله معاني وأسباباً وعللاً، فهو ليس مجرد توقف وإمساك عن المفطرات المادية، بل لتشريعه حكمة وفلسفة، ولوجوده آثار وفوائد تحاكي الانسان بقواه المادية والمعنوية. وهنا يجب التوقف عند مجموعة من المفاهيم يمكن لحظها في فصل الصوم.‏

في الدرجة الاولى الصيام عبادة والعبادة عند القيام بها تدعو الى القرب من الله تعالى، وهذا يعني ان الفرد العابد يتمكن من خلال العمل الذي يقوم به ان ينجزه على الوجه الأحسن خالياً من أي عيب أو نقص او ما شابه ذلك.‏

والعبادة بحد ذاتها نوع من الخضوع والتذلل للمعبود، وهي ايضاً نوع من الشكر والاعتراف بالنعم الالهية، لأن الفرد العابد عندما يقف أمام عظمة العطايا والفيوضات الالهية، ويلتفت الى أن الوجود الذي يحيط به لم يكن ليحصل لولا التوجه الالهي لهذا الفرد فيعبده شكراً له على نعمه.‏

والصوم هدية الهية للبشر يتمكنون بواسطته من تخطي العديد من المعوقات التي تقف امام تقدمهم المادي والمعنوي ليصلوا في النهاية الى أسس المنال حيث رأس الطهارة والصفاء. واذا كان الأمر كذلك فالصيام ليس مجرد منع للمأكل أو ما شابه ذلك عن الانسان، بل يتخطى هذا الأمر ليكون وسيلة ألجأ اليها لمحاسبة ذاتي والابتعاد عن المحرمات والممنوعات، والارتقاء الى درجة الصفاء.‏

هذا الأمر الأول، وأما الثاني فإن للصيام فلسفة وحكمة شرع الصيام على أساسها تتوجه حيثياتها الى الانسان ذاته. وقد ظهر الأمر في الآية الشريفة المتقدمة الذكر حيث جاء قول الله تعالى في نهايتها: "لعلكم تتقون"، وهي من أهم أسباب تشريع الصيام.‏

المقصود من التقوى إما معنى يحمل في داخله المنع، وذلك بغية الوصول الى الهدف المنشود، كأن نقول مثلاً التقوى: اجتناب المعاصي، فكان الابتعاد والامتناع عن المعاصي والذنوب ركناً أساسياً للتقوى، وقد يكون الأمر على عكس ذلك، بالاخص اذا تضمن حالة معرفية واطلاعاً دقيقاً على أسباب الأمور وآثارها وذلك فيما اذا قلنا ان التقوى هي: الأخذ باليقين أو الأخذ بما يؤدي الى الطاعة. وعلى جميع الحالات فالتقوى بالأخص المقصودة هنا في عبادة الصيام هي التي تؤدي الى تحقيق أهداف سامية على المستوى الانساني، فهو في البداية تربية وصناعة للشخصية وتشكل لمقوماتها وتقويم لأبعادها. الشخص التقي هو الذي اذا نظر الى سلوكه وأفكاره وممارساته تمكن من اختيار الأصلح والأفضل لهذا السلوك، وهذه الأفكار، وبالتالي الابتعاد عن القبائح والمفاسد وما شابه ذلك، واذا اقترنت كل هذه الأمور بنية القرب الى الله تعالى كان لها معنى معنوي آخر.‏

وفضلاً عن هذا الأمر فالتقوى تبعث على الصبر والحلم والتواضع، وتساهم في تعزيز وتدعيم القيم الاخلاقية والمعنوية عند الانسان. لا يمكن لنا أن نتصور إنساناً تقياً بكل معنى الكلمة الا أن نتصور مجموعة كبيرة من القيم الانسانية ملازمة له، مطردة التكامل فيه.‏

النقطة الثالثة التي يمكن لحظها في موضوع الصيام أنه بالاضافة الى تجلي العبادة فيه وطريقيته للتقوى، فإن الصيام يحمل منافع وفوائد مادية ومعنوية كبيرة. وهنا تطالعنا العديد من الأحاديث الشريفة المروية عن الرسول (ص) وأهل البيت (ع) التي تبين وتوضح هذا الأمر، جاء في الحديث الشريف: "صوموا تصحوا"، و"المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء"، لتلقي نظرة على المنافع المادية التي يشعر بها الانسان ويحس بوجودها في عالم الدنيا، حيث ان الصحة والسلامة من أهم الخصوصيات التي يتحلى بها الانسان ويسعى لتحقيقها في الدنيا. وتبرز على المستوى المعنوي أيضاً مسائل أخرى وأحاديث تؤكد على دور الصيام في تربية الفرد والانتقال به من المستوى الفردي الضيق الى المستوى الأكبر حيث القيم والعقائد... جاء في الحديث: "الصوم جنة من النار"، وفي حديث آخر عن الامام الصادق (ع): "انما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير... فأراد الله تعالى ان يساوي بين خلقه، وان يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع".‏

فكم حري بالانسان ان يتوقف لحظات تأمل وتفكير أمام هذه المسائل ليجد نفسه في الاطار الصحيح والسليم فتكون حركته وعبادته وأقواله.. تتجه نحو المنبع الأساس للفيض والرحمة، فيكون الصيام الوسيلة الأساس للعبور من عالم الأهواء والملذات الزائلة الى عالم الخلود والمعرفة.‏

ولعل الصيام من الأهمية بمكان أنه عبادة لا يختارها الانسان الا بعد معرفة واطلاع وعن كامل ارادة وحرية، فهل يمكن ان نتصور انساناً لا معرفة له بالدين والعقيدة، ولا اطمئنان لديه باليقين الذي تتحلى به، يقوم بهذه العبادات، فالارادة والاختيار يحملان معنى المعرفة واليقين عن دليل وبرهان.‏

علي الحاج حسن‏

2006-10-30