ارشيف من : 2005-2008
السوبر حداثة لحسن عجمي: السؤال في دوّامة الأفكار الممكنة
العهد/ ثقافة- 1129- 30 ايلول/ سبتمبر 2005
محمد خريف
الطريف في المطارح الفكرية التي تناولها كتاب "السوبر حداثة" الصادر حديثاً عن دار "نيسان" أن فكر السوبر حداثة يصبح منهجاً فكرياً وسلوكاً افتراضياً يطبقه الباحث على نفسه قبل ان يطالب الناس بأن يتمثلوه، أو يتأدبوا به كما جرت العادة عند الأدباء والمصلحين، لذا كان السؤال الافتراضي "هل نحن في عصر السوبر حداثة"(ص248) الوارد في خاتمة الكتاب لاغياً كل إيهام بالتمكن الصارم، نازفاً بطباع التواضع العلمي الواضع كل ما جاء في ادعاء الكتاب من تحليلات وتخريجات محل الشك والاحتمال، لا ادعاء الحكمة واليقين المعرفي الصارم، وفي ذلك مزية وفضل لا يُستهان بهما.
للكتاب وظيفة نوعية تعمل على ترقية ذهن الباحث في علم الأفكار، فتخلصه من ثقل الولع أو الشغف بالتراكمات المعرفية، وما ينجر عنها من التلبس بعُقد "النابغة" أو "السوبرمان" وتحرره، أو تجعله على الأقل واعياً بزيف الادعاءات والشعارات التي يتعلق بها بعض المفكرين العرب الذين شرّعوا للغزاة حق الاستيلاء على أوطانهم وإسقاط دولهم الشرعية باسم أفكار التحرير والديمقراطية التي ليست في الواقع سوى أفكار ممكنة، لذلك خصص حسن عجمي الفصل الأخير من كتابه لما يمكن ان تتفتح عليه "السوبر حداثة" من تحليلات مختلفة تخص مفاهيم الدول والامبراطوريات واليقين واللايقين، والمعرفة واللغة والعلوم والممكن والعقلاني، مصدّراً الفصل ببداية يقول فيها "علماً بأن السوبر حداثة تدرس الممكنات ولا تنوي دراسة الحقائق الواقعية رغم أنها قد تتضمنها، لا بد ان تتنوع تعريفات السوبر حداثة وتختلف وظائفها لأنه من الممكن ذلك، على هذا الأساس سنعرض بعض التحليلات الممكنة للسوبر حداثة" (ص227).
كتاب "السوبر حداثة" لحسن عجمي امكانيات افتراضية داخل امكانيات أو مروحة افتراضية تؤدي الى مروحة افتراضية اخرى، فكان الكتاب منتهياً الى فصل أخير معلناً ان عدوى الممكن لا تستقر وإنما تشمل السوبر حداثة نفسها، فتكون لها تحليلات ممكنة مختلفة دون خشية العودة أحياناً الى مقاربة تحليلات السوفر حداثة بما ناظرها من تحليلات الحداثة، وما بعد الحداثة، اذ يقول حسن عجمي مستدركاً "لكن السوبر حداثة هي التعددية في الفرد ذاته. فمن غير الضروري أن يكون للفرد نظام فكري واحد، بل لا بد أن يكون للفرد نُظُم فكرية متعددة، كأن ينتج نظريات علمية مختلفة ومتناقضة فيما بينها، كما أنتج اينشتاين نظرية النسبية وميكانيكا الكم المتعارضتين. فالسوبر حداثة هي دراسة الممكنات، والممكنات تشكل نظماً فكرية عديدة ومختلفة فيما بينها" (ص228).
دوامة التناقض تشرع دوام السؤال الافتراضي الذي يجعل النظم الفكرية لدى الفكر الواحد مختلفة، ما يفتح الباب واسعاً للإمكان، ويدحض الأفكار الصارمة المتمكنة التي ترى في بعض الأفكار المتناقضة في ما بينها منقصة، أو هي صفة من صفات الشعراء لا العلماء او الفلاسفة، فكيف الأمر وأينشتاين متناقض في نظرية النسبية مقارنة مع ميكانيكا الكم، وهو العالم من الطراز الراقي. لذلك يمكن الحكم على حجج السوبر حداثة بأنها علمية نقلية تؤيد الحجج المنطقية، التي يقوم عليها علم الأفكار الممكنة، وهكذا يمكن لمقاييس التقويم ومعاييره ان تتغير في ميادين العلم والفن والأدب.
برغم ما يلاقيه كتاب "السوبر حداثة" ـ علم الأفكار الممكنة ـ من فتور أو لا مبالاة عن قصد أو عن غير قصد، تظهر بصماته في طريقة عرض الكتاب أو الحديث عن ظاهرة السوبر حداثة من قبل بعض "القرّاء" أو"المثقفين العرب"، وهي طريقة تفتقر الى أبسط أنواع المصداقية العلمية التي لا تنسب الكتاب الى صاحبه، ويحرجها حتى التأكد من دار النشر التي أصدرت الكتاب، فإن أهمية الكتاب تكمن في تمكيننا من ادراك اهمية السؤال الافتراضي ونجاعته في زعزعة ما تمكّن في وعينا من وهم المفاهيم، مفاهيم لغوية حددت علاقتنا بالمعتقد والأشياء والأماكن والأزمان.
(*) تونس
** حسن عجمي "السوبر حداثة" علم الافكار الممكنة ـ بيسان ـ الطبعة الاولى بيروت ـ لبنان 2005.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018