ارشيف من : 2005-2008
رواية "الحاجز" لعزمي بشارة طورا بورا أخرى وفنادق نجوم الظهر!
العهد/ ثقافة- 1129- 30 ايلول/ سبتمبر 2005
مصطفى الولي
الكتاب: الحاجز ـ شظايا روائية
المؤلف: عزمي بشارة
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر 2004 بيروت
دخل الحاجز، الذي اشتهرت به ممارسات سلطات الاحتلال في أرجاء الضفة الغربية والقطاع، الى يوميات الانسان الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، بل غيّر علاقة المكان بالوقت أيضاً.
قبل الحاجز، وراء الحاجز، أمام الحاجز، عند الحاجز، بعد الحاجز، قرب الحاجز، في الحاجز. كلها أبعاد لواقع الحاجز الاسرائيلي، راحت تتكرر في أحاديث الناس العاديين وهم ينتظرون عبور الحاجز، أو يسرعون في الوقوف عنده قبل موعد الاغلاق.
تلك اليوميات، التي أصبحت من مظاهر حياة الفلسطينية في الضفة والقطاع، حوّلت حياة الناس الى جحيم، بددت أوقاتهم، أرهقت أجسادهم، أفسدت أفراحهم، شركت فضاءاتهم، قسمتها، ولم تُعدها الى تواصلها وامتدادها الطبيعي محاولاتُ السلام المزعوم والموهوم.
هذه التفاصيل اليومية، التي حُفرت في عمق النفس والحياة، هي مادة العمل الروائي الذي قدمه المفكر والسياسي الفلسطيني عزمي بشارة.
ولعله في توصيفه لعمله: شظايا روائية، يلخص، ليس طبيعة العمل الأدبي الذي نحن بصدده، انما هو أيضاً يرمز الى تشظي الواقع الانساني والاجتماعي تحت الاحتلال.
تسع وخمسون "شظية" هي مجموع مادة الرواية التي كتبها عزمي بشارة (الحاجز: شظايا روائية).
في العبرية الحاجز يسمى بـ"المحسوم". فكيف يلفظه الطفل الذي لم يتدرب لسانه بعد على ضبط لفظ الحروف. في الشظية ـ اللوحة ـ الأولى من العمل، يأخذنا بشارة الى براءة لغة الطفولة، وهي تلفظ اسم الكابوس الجاثم على صدور الناس بمن فيهم الأطفال وهم في طريقهم الى المدرسة ذهاباً وإياباً.
"وين كنت يا بابا؟" "كنت على المحثوم". شردت هنيهة "المحثوم" بالثاء المخففة لفظ طفولي ملائكي للكلمة العبرية "محسوم" ومصدرها "حسام" أي سد الطريق(...) شو عملتي يا بابا عالمحسوم؟ "غنيت"، شو غنيتي؟ وانطلقت فوراً بالغناء ترافقه نغمات صوتها العذب الذي يذيب الأشياء فتنساب جداول رقراقة تحيط بنا وحدنا واقفين على قطعة من الجنة الخاصة بنا بين المحاسيم: سنة حوله (حلوه) يا جميل). ص14.
قهر الحاجز، على قسوته ووحشيته، لم يستطع أن يقتل حب الحياة في براءة الطفولة. وكأن عزمي بشارة بافتتاحه شظايا روائية (الحاجز) بلوحة من واقع الطفولة، يهزأ من أهداف دولة الحاجز الاسرائيلي.
في كل لوحة من لوحات الواقع ـ الرواية ـ يضعنا عزمي بشارة أمام معنى بسيط وعميق لمجريات العلاقة بين الحاجز والمحتجزين (الناس الفلسطينيين) من كل الأعمار والفئات وعلى مستوياتهم الفكرية والعلمية المتنوعة. وهو أيضاً يقدم في غضونها محاولات الالتفاف على الحاجز وأساليب الصراع معه.
"يمثل الحاجز" نقطة تحول "في الحيز العام. انه ليس مكاناً بل حافة، تخوم، ونقطة عبور، نهاية، وبداية في نفس النقطة في الحيز العام، إنه شفا الانتقال. واذا لم يتقن الانسان المشي بتوازن فقد يتحول الى منحدر سحيق منزلق نحو الهاوية. فقد يصل المرء منه الى الاعتقال بدل الوصول الى العمل، أو الى البهدلة الجسدية المباشرة بدلاً من البيت (...) الحاجز هو حالة الوضع، حال الحالة. ليس الحاجز بالنسبة للجنود مكاناً. انه موضع يوضعون فيه بحكم علاقتهم بالدولة. يُنصّبون عليه، يُعينون ويُرسلون اليه، انه موقع للسيطرة والاستبداد(...) انه ليس حيزاً عاماً، إنه موقع يسيطر على الحيز العام" ص 28.
وسوف يلاحظ القارئ أن رواية الحاجز كتبت بعض الفقرات في شظايا بلغة هي أقرب أحياناً الى التكثيف الفكري لتعميق المعنى، اقتصاداً باللغة، وتوظيفاً للنص في سبيل ايصال ما ينشده الكاتب في صراعه مع الحاجز و"دولة" الحاجز.
أما وأن الحاجز يرمز في رواية عزمي بشارة الى تركيب وتعقيد العلاقة بين أصحاب الحاجز وأصحاب الأرض التي أقيم فوقها "المحسوم" فتبدو اللوحات المتعددة وكأنها تأسيس يقوم المؤلف بالدعوة اليه، للحفر في الحاجز من أجل تقويضه.
الحفر لا ينحصر في المناوشة الدائمة بين طرفين جامعهما الأهم هو ديمومة التحدي. داخل من هم سلطة الحاجز ثمة قلق واضطراب وفقدان توازن، وأزمة وجود لم يتمكن صانعوه بعد ـ ولن يتمكنوا ـ من تطبيقه مع المكان، ومع الانسان الأصلي صاحب المكان.
"على الحاجز كل شيء مشبوه. الشارب والسمرة معطيات مشبوهة أصلاً في مطارات العالم أجمع. والنظارة الشمسية مشبوهة(...) ومنذ أن قررت ممرضة شقراء "ان تنفذ عملية" في بلاد الحواجز، لم يعد الجنس أو اللون يشكل حماية، ولا المهنة أيضاً (...) وبعد أن انتشرت الأحزمة المتفجرة التي تغني عن الحقيبة وعن الكيس أصبح بطن الانسان مشبوهاً، وأصبح لدى الانسان متسع من الوقت أثناء الانتظار على الحاجز ليفكر بتكويرة بطنه التي كلما ازدادت ازداد الاشتباه". ص 51.
ثمة مفارقة يكشفها الكاتب بين وظيفة الحاجز كما هي مقررة في تخطيط أصحابه (إخضاع الناس العرب) والنتائج المترتبة على عمله وممارسات اصحابه (تعميق التناقض وولوجه تفاصيل جديدة) تجعل الاحتدام حالة متصاعدة.
يحاول الحاجز اعاقة الولادة المتجددة في رحم المرأة الفلسطينية، لكنه يفشل، وعند الحاجز ورغماً عنه تستمر الولادة وان كان مخاضها أكثر ايلاماً، لكنه أعلى تعبيراً عن حقيقة الوجود الفلسطيني الممتدة جذوره في عمق الأرض.
الأعراس تتحدى بدورها زمن الحاجز. ثلاث زفات تختلط فيها البهجة بالضيق والفرح بالإرهاق والإرباك. تتخللها طرائف من أهل العروسين وبسلوك الأزواج وهم في طريقهم الى الفرح ثم الى غرفة النوم.
في الزفة الاولى "يمشي العريس جذلاً، شخص ما قد تطوع ووضع منديلاً بين ياقة القميص ورقبة العريس حفاظاً على الياقة من العرق، فعليها ان تخدم ما تبقى من اليوم، وليس لدى العريس ألف قميص" ص 160.
فالانتظار طويل والحرارة مرتفعة تتواطأ على أناقة العريس مكملة قهر الحاجز. لكن الزفة تتم وبعد وقت طويل تمضي الحياة الى طبيعتها.
في الزفة الثانية "العروس جميلة بالطبع، مع كل التوابع، التي لم يصادرها المشهد الحاجزي بعد، ولم تتغلب عليها ثقافة القباحة بعد(...) يطلب جندي الحاجز الهويات. الجميع بما في ذلك السيدة الى جانب العريس (العروس) ظن أنه لا يعقل ان تحمل العروس بطاقة هوية على فستان العرس الأبيض، أين ستضعها أصلاً؟
لحسن الحظ فطنت أمها أن تحمل هوية ابنتها مثل سيدة انكليزية لا تثق بالطقس لا بد أن تحمل شمسية حتى يوم عرس ابنتها" ص 170.
الزفة الثالثة مشهدها مختلف حيث العروس تريد عبور الحاجز لتصل الى الجهة الأخرى التي ينتظرها فيها العريس وأهله، ويرفض الجنود تسهيل مرورها الا حين يأتي دورها. كان المخرج المشي على الأقدام الى الجهة الأخرى، "خرجت العروس من السيارة وأمسكت بيد والدها (...) ديري بالك الفستان من الوحل يا حبيبتي، ارفعي، ارفعو لها اياه يا ناس، سمعت العروس صوت أمها، عادت الى نفسها ورفعت الفستان... وهكذا ساروا الى الجهة الأخرى حيث ينتظر العريس وأهله" ص 178.
في لوحات بشارة أصوات تتحاور. أصحابها لا يخلو منطقهم من الطرافة، وبعضهم صار يجيد المراوغة للالتفاف على نظام الحاجز ودولة الحاجز. في بلاد الحواجز، وفي أوقت منع التجوال واحتمالات اغلاق الحواجز نهائياً امام قاصدي العبور الى الجهة الأخرى من الحاجز، ابتدع الناس طريقة خاصة لأفراحهم ومواعيدها "وتتمثل العادة الجديدة، بكتابة ثلاثة أو أربعة تواريخ متتالية بحيث يدرك المدعو النبيه أنه اذا صادف اليوم الأول منع تجوال فهذا يعني ان التاريخ التالي هو المقصود (...) لم يتنازل أهل رام الله عن سهرة العرس برغم منع التجوال، ولذلك فإنهم يدعون الناس الى حضور "حفلة السهرة" تمام الساعة الواحدة ظهراً (...)، منذ تلك الأيام لم تعد الفنادق التي تعقد فيها هذه الحفلات تدعى على عادة أهل تلك الديار فنادق أربع نجوم، أو خمسة عشر ألف نجمة، وأصبحت تسمى نجوم الظهر" ص 182.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018