ارشيف من : 2005-2008
ضيوف البيادر
الانتقاد/ قصة قصيرة- 1128- 23 أيلول/ سبتمبر 2005
من عادتي أن أحاور نفسي كلما خلوت بها وتراءت أمام ناظري صور من الماضي البعيد..
هل تذكر ضيوف البيادر مأساتهم.. وكيف كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. كانوا يُعدون بالآلاف.. أليس كذلك؟..
طبعاً أذكر.. وهل ذاك شيء ينسى!..
اذاً ماذا تفعل.. أراك قابعاً أمام جهاز غريب.. عجيب.. على أيامي لم يكن له وجود.. أولاً.. إنه جهاز التلفاز.. ثانياً.. ابتسم يا صغيري واعلم.. بعد ان دُحرت قوات الاحتلال الاسرائيلي مهزومة عن جنوب لبنان، وتحررت قريتنا وغيرها من قرى الشريط الحدودي المحتل بفضل ضربات المقاومة الموجعة لها.. السيناريو نفسه يتكرر الآن في قطاع غزة.. ولكن يقولون ان غزة أولاً فقط.. وينزل الستار.. هل هذا صحيح؟..
هذا هراء.. وقصر نظر.. ما دام هنا غزة أولاً.. فمن الطبيعي ان يكون هناك الضفة والقدس ثانياً وثالثاً.. ولكن مع الاصرار على المقاومة وسلاحها..
أراك سعيداً.. مبتهجاً.. تكاد تطير فرحاً بهذه المناسبة..
وكيف لا.. وعدوّنا يلعق الآن هزيمته الثانية بعد جنوب لبنان..
ويحاول جاهداً تجميل سلسلة هزائمه.. ولكنه عبثاً يحاول..
ويصمت الصبي الجنوبي قليلاً.. بعد أن أرجعني.. أرهقني وأعادني كعادته الى ذكريات الماضي البعيد.. ليستطرد سائلاً:
هل تذكر عندما اقتحمت القرية عصابات اليهود ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم من عام النكبة.. واجتازت الحدود من دون مقاومة؟ يومها رفع الأهالي راية بيضاء على مدخل القرية..
نعم.. وأذكر أيضاً ان العائلة الجنوبية كانت تتناول طعام الغداء.. عندما تعالت الأصوات من كل حدب وصوب..
اهربوا.. اليهود هجموا.. اليهود هجموا.. وتركنا الطعام وهربنا مع الهاربين.. حدث هذا في زمن الهروب.. زمن الرايات البيضاء.. زمن الأيادي المرفوعة.. زمن القهر والذل..
وفرّ سكان القرية الجنوبية ذعراً.. وتفرقوا داخل غابة كثيفة الأشجار..
وقضوا ليلتهم في العراء.. يلفهم ظلام دامس.. عزلاً لا يملكون سلاحاً يدافعون به عن أنفسهم.. الى ان غادر أفراد العصابة اليهودية القرية بعد أن عاثوا فيها نهباً وتخريباً.. وعاد السكان أدراجهم الى القرية.. تعلو وجوههم المتعبة علامات اليأس.. وخيبة الأمل.. والشعور بالمرارة.. والآن بعد مضي عشرات السنين.. هل تغيّر الوضع؟..
نعم، بفضل الله والمقاومة كل شيء تغيّر.. وأصبح الآن عندي بندقية.. وصاروخ.. وابتسم الصبي فرحاً..
ولكنه عاد سريعاً الى مرارة أسئلته العلقمية..
هل تذكر عندما غرقت السفينة في بحور الضعف العربي تماماً آنذاك.. ماذا حدث..
نعم حدث الكثير من المآسي.. وعبر الحدود نحو لبنان وغيره من البلدان آلاف النازحين عن فلسطين.. تاركين خلفهم قراهم وبيوتهم وأرزاقهم.. تطاردهم حالة رعب رهيبة.. وداخل الحدود مع لبنان..
استقر الآلاف منهم في بيادر القرية الجنوبية التي أفاق سكانها على ضجيج زحف بشري هائل..
وأسرع الجميع مرحبين.. مستفسرين عن أخبار المجازر الدموية التي ارتُكبت بحق شعب فلسطين، لتكون في خدمة خطة اقامة الكيان الصهيوني التي رُسمت على الورق مسبقاً..
فجأة توقف الصبي الجنوبي عن الكلام.. وقد اكفهر وجهه وبدا كأنه يعتصر ألماً.. وقد عاد الى مخيلته.. مشهد من مشاهد فصول المأساة ما زال يرافقه منذ بداية النكبة.. حتى يومنا هذا..
كانت أمي تشد على يدي.. كأنها تخشى ان أضيع وسط الزحام.. وتسير بي وسط مجموعة من نساء القرية.. وقد نزلت الى "حاكورة" صغيرة تبعد بضعة أمتار عن الطرف الغربي للبيادر التي كانت تعج بآلاف النازحين.. هل تذكر من كانت هناك وحيدة.. تفترش التراب.. باكية.. مولولة؟..
نعم أذكر.. إنها فاطمة.. الصبية الفلسطينية.. ابنة الثمانية عشر ربيعاً.. التي كانت تعيش مع أسرتها في إحدى قرى الجليل.. مثالاً حياً للنبل والطهر.. مرة ثانية توقف الصبي الجنوبي عن الكلام هامساً.. أحس بألم حادّ يمزق روحي كلما تذكرت منظر فاطمة..
أمي ما زالت تشد على يدي.. وكلام النسوة يتسرب الى سمعي غريباً.. لا أفهم منه سوى كلمات.. يا حرام.. يا حرام.. وقد أحاطوا بالفتاة التي أجهشت بالبكاء.. محدقة في وجوههن.. كأنها تستنجد بهنّ.. كانت "فاطمة" ترتدي ثوباً أسود.. وقد غطت وجهها الناصع البياض مسحة اصفرارٍ قاتمة.. تأملتها جيداً.. فوجدتها تارة تغرق في لجّة صمت رهيب.. وتارة أخرى تنفجر صارخة.. وتبدأ معها موجة بكاء جديدة.. وعنيفة.. كأن مسّاً من الجنون أصابها..
صبحي مصطفى أيوب
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018