ارشيف من : 2005-2008
الامام المهدي (عج): حقيقة دينية أم فرضية مذهبية
الانتقاد/ ثقافة- 1128- 23 أيلول/ سبتمبر 2005
اتفق المسلمون على اختلاف مذاهبهم على خروج المهدي (عج) في آخر الزمان، وأنه من أولاد علي وفاطمة (عليهما السلام)، وأن اسمه كاسم النبي محمد (ص)، والأخبار في ذلك متواترة عند الشيعة وأهل السنّة، فالاعتقاد بالمهدي (عج) هو من ملّة الاسلام ومتواتراته، بل وضرورياته، ولا خلاف فيه بين المسلمين، وانما اختلفوا في أنّه وُلد أم سيولد. فالشيعة الامامية وجماعة من علماء أهل السنة قالوا بأنه ولد، وأنه محمد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، وذهب أكثر أهل السنة الى انه لم يولد بعد وسيولد.
ويمكن القول بأن المراجعة الدقيقة والخالية من التعصّب والحقد والكراهية تثبت لكل باحث في الروايات والأحاديث أنه لا يوجد قضية تسالم عليها الرواة واعتبروها من الحقائق الثابتة التي لا يمكن انكارها في الفكر الاسلامي مثل قضية الامام المهدي (عج)، ومسألة خروجه في آخر الزمان ليرفع لواء الحق والعدل في وجه كل ظالم ومستبد.
وبرغم هذا كله لم تسلم هذه القضية من أقلام الحاقدين والمتعصبين، إن لم نقل من كل من عمل جاهداً على تحريف الاسلام وقضاياه لإبعاده عن ساحة الصراع وإيجاد العديد من التشكيكات في أذهان الناس، حيث لا يوجد أي تفسير لإنكار هؤلاء لقضية وجود الامام المهدي (عج) سوى الحقد الأعمى والدفين في قلوبهم، الذي ورثوه عن أولئك الذين حاولوا القضاء على الدعوة الاسلامية في مهدها، وطمس معالمها، وتزييف حقائقها. فليس مثلهم إلا كمن يحاول أن ينكر وجود نور الشمس في وسط النهار.
وقد تطاولت أقلام الكذب والخداع لتصف قضية وجود الامام المهدي (عج) بأنها من القصص والخرافات التي ابتدعها الشيعة، وتناولوها بالسخرية والاستهزاء، واعتبروها من الموضوعات الشيعية، وهم أكثر الناس علماً بأن التراث والفكر الاسلامي وما رواه جهابذة العلماء وثقات الرواة والمحدثين لم يكن ليدوّن في الكتب الا بعد التمحيص والتدقيق في كل رواية تروى عن النبي وأهل بيته الطاهرين.
ومن أجل دحض هذه الشبهات والمزاعم نذكر فيما يلي بعض ما كتبته أيادي وأقلام المنكرين لهذه الحقائق مع الإجابة عليها بنحوٍ اجمالي:
يقول ابن خلدون في مقدمته:
إن الشيعة يزعمون أن الثاني عشر من ائمتهم هو محمد بن الحسن العسكري، ويلقّبونه بالمهدي، دخل السرداب بدارهم في الحلّة، ويقفون كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب ذلك السرداب ـ ينتظرون خروجه ويهتفون باسمه ويدعونه للخروج".
وأما ابن حجر العسقلاني الهيثمي فقال في كتاب الصواعق:
"إن العسكري لم يكن له ولد، بطلب أخيه جعفر ميراثه من تركته لمّا مات، فدلّ طلبه أن أخاه لا ولد له، وإلا لم يسعه الطلب..".
وقد بلغت الغفلة ببعضهم فألحقه بالأقاصيص والخرافات كما فعل الإسعاف النشاشيبي الذي قال في كتابه الإسلام الصحيح:
"اذا كانت سنّة وشيعة او اعتزالية تقبل الخرافة المهدوية، فالمسلمون المستمسكون بالقرآن ينبذونها نبذاً، ويرفضونها رفضاً، إن مهدي المسلمين وهاديهم وإمامهم قد ظهر من قبل، والحمد لله، وهو محمد ابن عبد الله رسول الله (ص) الذي أُنزل عليه القرآن، ... وكل ذلك هوس، ولم يعقّب الحسن المذكور ذكراً ولا أنثى...".
وقال صاحب كتاب لوائح الأنوار:
"ما زعم الشيعة أن اسمه ـ يعني المهدي (ع) ـ محمد بن الحسن وأنه محمد بن الحسن العسكري هذان، فإن محمد بن الحسن هذا قد مات وأخذ عمّه جعفر ميراث أبيه الحسن (ع).
وقال القرماني في كتابه الصراع بين الاسلام والوثنية:
"ان أغبى الأغبياء، وأجمد الجامدين هم الذين غيّبوا إمامهم في السرداب، وغيّبوا معه قرآنهم ومصحفهم، ومن يذهبون كل ليلة بخيولهم وحميرهم الى ذلك السرداب الذي غيّبوا فيه إمامهم ينتظرونه وينادونه ليخرج اليهم ولا يزال عندهم ذلك منذ أكثر من ألف عام".
هذه بعض أقوال من حاولوا ان يثيروا الشبهات في قضية وجود الامام المهدي (ع)، وأوّل ملاحظة ترد على هؤلاء: أنهم لماذا يوجّهون كل هذه التهم، وينسبون هذه الأباطيل الى الشيعة، ويعتبرون أمر المهدي (ع) من مزاعمهم وأضاليلهم، ولم يتعرضوا في كلامهم الى من نطق بالحق واعترف وأقرّ بوجود وولادة الامام المهدي بن الحسن (ع) من علماء السنّة الذين يصعب احصاؤهم لكثرتهم، وتصريحهم الواضح واعترافهم وعدم انكارهم لهذه القضية.
وقد ذكر صاحب كتاب "منتخب الأثر في الامام الثاني عشر" احصاءً اورد فيه حوالى خمسة وستين عالماً من علماء أهل السنة ممّن صرّحوا بوجود ولد للامام الحسن العسكري (ع) وأنه المهدي المنتظر(ع).
وهناك احصاء آخر لأقوال وكلمات أكثر من مئة مفكّر وعالم من أهل السنّة ومؤرخيهم من الذين وافقوا رأي الشيعة ليس فقط في أصل هذه القضية، بل الى القول بولادة الامام المهدي (عج) في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.
أما بالنسبة لأولئك المشككين والمنكرين الذين أوردنا بعض كلماتهم فهؤلاء وقعوا في الكثير من الهفوات والتناقضات التي تثبت ان كلماتهم لم تكن مستندة الى الحقائق والأدلة العلمية، بقدر ما هي تمثل حقداً أو جهلاً وما شاكل ذلك.
فقد وقع ابن خلدون ـ على سبيل المثال ـ في التهافت والتناقض وذلك: لأنّ علماء الحديث قد أخذوا عليه أنه يستهلّ الفصل الذي يعقده حول الامام المهدي (عج) بالقول: "اعلم ان المشهور بين الكافة من أهل الاسلام على مر الأعصار انه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويُظهر العدل...".
ثم بعد ذلك يشكك في الأحاديث وضعفها، وكان الأحرى به أن يعتبر الشهرة دليلاً على الصحة بوجهٍ عام.
لذلك كان فيما أورد عليه الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد عضو هيئة التدريس في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة حيث وصفه: "بأنه من الاخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص".
ثم قال ردّه على الشبهة التي أثارها ابن خلدون: والجواب: (باختصار). أولاً: إنّ ابن خلدون اعترف بسلامة بعضها من النقد، على أنه قد فاته الكثير من الأحاديث التي لم يذكرها بالنقد.
ثانياً: ان ابن خلدون مؤرخ وليس من رجال الحديث، فلا يعتدّ به في التصحيح والتضعيف، ووافق العباد جماعة كبيرة من العلماء في هذا الايراد على ابن خلدون. وذهب البعض الآخر في الردّ على ابن خلدون الى القول بأن احاديث المهدي بلغت حد التواتر، وحكم التواتر وطريقة معالجته ليسا كحكم احاديث الآحاد ومعالجتها، اذ أنه في المتواتر لا يُبحث عن الجرح والتعديل كما في أخبار الآحاد.
وشهد بتواتر أحاديث المهدي (عج) يقول في كتابه (الصواعق) عند تفسير قوله تعالى: "انه لعلم للساعة"، بأن هذه الآية نزلت في المهدي، وأنه من أهل البيت النبوي، وأن الآية فيها دلالة على كون البركة في نسل فاطمة وعلي (عليهما السلام)، ونفس الايراد نذكره على ابن كثير حيث يقول كلاماً يتناقض مع كلامه المتقدم في النهاية فيقول: "فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان، وهو أحد الخلفاء الراشدين والائمة المهديين.. فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) وأنه يكون في آخر الدهر..".
ثم لا يخفى أن الأحاديث والروايات المتواترة عن النبي (ص) والآيات الواردة في القرآن الكريم هي وان كانت المستند الأساس الذي استند اليه القائلون بوجود الامام المهدي (عج) إلا أن العقل هو أيضاً من الأدلة الدامغة التي يُستدل بها على ضرورة وجود الامام المعصوم المنصوص عليه من قبل النبي الأعظم (ص) عن الله تعالى.
واعتماد الشيعة على الدليل العقلي لم يقتصر على قضية الامامة والقضية المهدوية، بل ان معظم القضايا الاعتقادية عندهم منشأها العقل، والى هذا يشير الشيخ الصدوق نقلاً عن شيخ المتكلمين وأحد صحابة الامام الحسن العسكري (ع) اسماعيل بن علي النوبختي فيقول:"... ان أمر الدين كله بالاستدلال لا يعلم، فنحن عرفنا الله عز وجل بالأدلة ولم نشاهده ولا أخبرنا عنه من شاهده، وعرفنا النبي (ص) وكونه في العالم بالأخبار، وعرفنا نبوته وصدقه بالاستدلال، وعرفنا أنه استخلف علي بن ابي طالب(ع) بالاستدلال، وكذلك عرفنا ان الحسن بن علي (ع) امام مفترض الطاعة..".
فالمسلك والمنهج العقلي في الاستدلال على ضرورة وجود الامام المعصوم هو المسلك المتبع في الاستدلال على وجود الامام المهدي (ع) وكونه من الحقائق الدينية الثابتة التي لا يرقى اليها الشك ولا يصل اليها كلام المشككين والموتورين والحاقدين، وإن كلمات العلماء وأقوالهم من مختلف المذاهب الاسلامية وبشهادتهم بوجود الامام المهدي (عج) هي الرد المنطقي على القائلين بكون الامام المهدي (عج) قضية تخص مذهباً واحداً من مذاهب المسلمين.
فهل بعد هذا الاطباق والاتفاق والتواتر في قضية الامام المهدي (عج) والاحاديث والمرويات التي نقلها العلماء من كل الفريقين يمكن لقائل ان يقول بأن هذه المسألة من المسائل التي تفرد بها بعض المذاهب الاسلامية، وليس لها واقع أو أساس في الدين الاسلامي.
وهذا كله مع الاشارة الى ان ميدان البحث يتسع لابراز هذه الأقوال والمؤيدات العقلية ضمن مجلدات كبيرة، وما ذكرناه لم يكن الا اشارات وتنبيهات لحقيقة القضية المهدوية في الدين الاسلامي.
الشيخ خليل رزق
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018