ارشيف من : 2005-2008

النظريات المفسرة لغيبة الإمام المهدي (ع): قراءة في المنهج‏

النظريات المفسرة لغيبة الإمام المهدي (ع): قراءة في المنهج‏

الانتقاد/ ملف ـ العدد 1126 ـ 16 أيلول / سبتمبر 2005‏

عنت نظريات عديدة بتفسير غيبة الإمام المهدي (ع)، هذه الغيبة التي بدأت منذ ولادته في الخامس عشر من شعبان سنة 255هـ، حيث غاب الإمام عن الأنظار، وما زالت غيبته مستمرة إلى يومنا الحاضر.‏

وقد اختلفت هذه النظريات في تفسيرها الغيبة، فبعضها تناول البعد الشخصي في حدث الغيبة، في حين أن نظريات أخرى تناولت البعد الاجتماعي والعام في قضية الغيبة. وهذه النظريات الاجتماعية اختلفت أيضاً في تفسير تلك القضية، حيث يمكن أن نفهم من بعضها تفسيراً اجتماعياً ما، في حين نفهم من نظرية أخرى تفسيراً اجتماعياً مختلفاً.. حتى ان القارئ يمكن أن يتوهم أن هناك نوعاً من التنافي أو التعارض بين هذه التفاسير، وهذا ما يرجع إلى طبيعة المنهج المعتمد في قراءة الغيبة وفلسفتها وأهدافها.‏

وما يجب الإشارة إليه هنا، أن النصوص الدينية أخذت دوراً أساسياً في توليد تلك النظريات، حيث إن معظمها إن لم نقل كلها، قد ارتكز على رواية أو أخرى في تفسيره للغيبة!‏

كما يجب الالتفات إلى أن استخدام المنهج الموضعي ربما يفضي إلى نتيجة ما، في حين أن استخدام المنهج الموضوعي قد يفضي إلى نتائج أكثر شمولية تلغي ذلك التعارض المتصور في نظريات الغيبة ورواياتها.‏

بداية لا بد من أن نشير إلى تلك النظريات، ومن ثم نحاول استخدام المنهج المناسب في فهمها وفهم النصوص التي ارتكزت عليها في محاولة لتقديم رؤية شاملة وموضوعية تأخذ بعين الاعتبار الأسس الكلامية والدينية التي ترتكز عليها الغيبة.‏

يمكن تقسيم تلك النظريات إلى قسمين: نظريات شخصية ونظريات اجتماعية. والمراد بالنظريات الشخصية تلك التي تفسر الغيبة استناداً إلى شخص الإمام المهدي (ع)، حيث قد يفهم منها البعد الشخصي في حدث الغيبة، وهي نظريات متعددة يمكن استفادتها من الروايات:‏

1 ـ نظرية الخوف: وتذهب هذه النظرية إلى أن الإمام (ع) قد غاب خوفاً على نفسه من القتل أو الذبح، كما أشارت إليه بعض الروايات، وبالتالي فإن حماية شخص الإمام قد اقتضت غيبته منعاً من تعرضه للقتل. وفي هذا الموضوع يقول الإمام الصادق (ع): "يا زرارة، لا بد للقائم من غيبة، قلت: ولمَ؟ قال: يخاف على نفسه، وأومأ بيده إلى بطنه".‏

2 ـ نظرية البيعة: أي ان الإمام (ع) قد غاب حتى لا يبايع أحداً من الظالمين، ولا يكون في عنقه بيعة لأحد منهم، وإلا فإنه لو بقي ظاهراً فسوف يضطر إلى البيعة، فكان لا بد من غيبته منعاً من حصول تلك البيعة.‏

يقول الإمام الصادق (ع): "صاحب هذا الأمر تغيب ولادته عن هذا الخلق لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج".‏

3 ـ نظرية الاعتزال: يستفاد من عدة روايات أن اللَّه تعالى يكره لأوليائه مجاورة الظالمين، وبناءً على هذه القاعدة فإن الإمام (ع) قد غاب كرهاً للظلم والحيف، حيث ارتأى هجران المجتمع تعبيراً عن رفضه للظلم والفساد والابتعاد عن اللَّه تعالى.‏

عن أبي جعفر (ع): "إن اللَّه (تعالى) إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم".‏

كما يمكن الإشارة هنا إلى مشابهته الأنبياء في غيباتهم، حيث تذهب بعض الروايات إلى أن "اللَّه عزَّ وجلَّ أبى إلا أن يجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم".. فضرورة مشابهته للأنبياء من حيث الغيبة اقتضت غيبته لتجري فيه سنة الأنبياء كما جرت فيهم.‏

هذه أبرز النظريات التي يمكن تصنيفها في البعد الشخصي في معالجة قضية الغيبة، لكن يوجد في المقابل نظريات أخرى مفسرة غيبة الإمام تركز على الجانب الاجتماعي والعام في غيبته، وأهم تلك النظريات:‏

1 ـ نظرية التمحيص: حيث أكدت بعض الروايات أن الهدف من الغيبة هو تمحيص المؤمنين واختبارهم، لأن فلسفة الحياة قائمة على أساس الابتلاء، ومن أبلغ الابتلاء ضرورة الإيمان بالقائم (ع) وهو في غيبته. وقد ورد عن الصادق (ع): "إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس، لا واللَّه حتى تميزوا، لا واللَّه حتى تمحصوا، لا واللَّه حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد".‏

2 ـ نظرية النصرة: أي ان الإمام (ع) قد غاب لعدم وجود الناصر، وهذا يستفاد من بعض الروايات باعتبار أن الأمور تجري بأسبابها، ومن أسباب النصر وجود الناصر. ربما لأن الإمام هو خاتم الأئمة فقد غاب انتظاراً لوجود الناصر الذي يساعد على تمكين الدين.‏

3 ـ نظرية الامتحان: والمراد بها امتحان النظريات الوضعية واللادينية التي أريد لها أن تكون مكان الأطروحة الإلهية، فكان تغييب الإمام بمثابة تعطيل مرحلي للأطروحة الإلهية بمرتبتها المعصومة، إفساحاً بالمجال أمام تلك النظريات الوضعية حتى تختبر صحتها، والتي سوف تصل إلى الفشل وتكتشف عدم قدرتها على محاكاة الفطرة وإيصال الإنسان إلى سعادته الحقيقية.‏

4 ـ نظرية الإعداد: والمراد بها انتظار جميع الظروف الموضوعية والإعداد لها للقيام بعملية التغيير الشاملة، وتمكين الدين وإحقاق العدل في جميع الأرض. اذ يستفاد من جملة من الروايات التي يمكن استخلاص هذا الفهم من مجموعها، أن توافر جملة من الظروف الموضوعية التي منها وجود الناصر، هو أمر أساسي لحصول الظهور.‏

وعلى ما تقدم كيف يمكن الجمع بين كل تلك النظريات وغيرها، سواء ما كان منها يرتبط بالجانب الشخصي أو ما كان منها يرتبط بالجانب الاجتماعي؟ وما هو المنهج الذي يجب أن يعتمد في قراءة النصوص المفسرة لحدث الغيبة، باعتبار أن تحديد المنهج والمقدمات التي يمكن أن يرتكز عليها في تلك القراءة تؤثر حكماً على النتائج التي تفضي إليها؟ وفي هذا الموضوع لا بد من الإشارة إلى جملة من النقاط التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار:‏

1 ـ ان تحديد المنهج المستخدم في قراءة نصوص الغيبة هو عمل سابق منهجياً على قراءة النصوص نفسها، ولذا لا بد من أن يتقدم الكلام في المنهج على أي عمل آخر.‏

2 ـ ان المنهج الذي يجب أن يستخدم هو المنهج الموضوعي وليس الموضعي، باعتبار أن وظيفة الإمامة المعصومة يتداخل فيها المعرفي مع الديني والسياسي والاجتماعي والعسكري.. ولذا يجب أن يكون المنهج مستوعباً لكل العوامل الدخيلة في الموضوع.‏

3 ـ وعليه يجب أن تقرأ كل الروايات قراءة موضوعية، باعتبار أن كل رواية أو مجموعة روايات ربما تكون ناظرة إلى جهة من جهات الغيبة وأسبابها، وبالتالي فإن تحديدها سبب ما أو حكمة ما للغيبة لا ينافي سبباً آخر أو حكمة أخرى تكون ناظرة إلى جهة أخرى من جهات الغيبة.‏

4 ـ إن النصوص التي قد يفهم منها البعد الشخصي في حدث الغيبة، لم تتناول الإمام المهدي بلحاظ البعد الشخصي في شخصيته، بل باعتبار الجانب الحقوقي في شخصيته، أي بما هو إمام، ولذلك يجب أن تذوب تلك النصوص ذات البعد الشخصي في الأبعاد العامة والجوانب الاجتماعية والنظريات ذات البعد الجمعي، وأن تفهم على ضوئها ومن خلالها.‏

5 ـ يجب أن تفهم تلك النصوص على أساس أهداف الدين ووظائف الإمامة المعصومة والخصوصية الوظيفية للإمامة الخاتمة على مستوى كنس كل الأطروحات الوضعية، وتحقيق نهاية للتاريخ تسبقها تحقيق الخلافة الإلهية بأرقى مراتبها وأوسع معانيها.‏

6 ـ يجب أن تقرأ تلك النصوص والنظريات المستولدة منها قراءة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الكونية والعالمية لحركة الدين وأهدافه. ولذا فإن حركة الإمام ليست محصورة بفئة خاصة أو جغرافية محددة، وإنما هي حركة عالمية شاملة وكاملة.‏

7 ـ إن كل ما تقدم قد لا يلغي ذلك المعنى الذي يستفاد من بعض الروايات، وهو عدم إمكانية معرفة علة الغيبة إلا عند ظهور الإمام (ع). إذ إن المراد منها عدم إمكانية معرفة العلة التامة لجميع أبعادها وجوانبها، وإلا فإن معرفة جملة من تلك الأسباب أو الفوائد التي تترتب على الغيبة هي أمر متيسر، بل إن أدنى ما يستفاد من تلك الروايات التي تحدثت في علل الغيبة وأسبابها هو أنه يمكن تحصيل معرفة ما بفلسفة الغيبة وأسبابها وفوائدها، لأن تلك الروايات نفسها قد قدمت جملة من المعارف التي ترتبط بفلسفة الغيبة وحقيقتها.‏

2006-10-30