ارشيف من : 2005-2008

يا سيدي الإمام اللبنانيون جميعهم يحفظون لك أياديك البيضاء

يا سيدي الإمام اللبنانيون جميعهم يحفظون لك أياديك البيضاء

الانتقاد / مقالات ـ العدد 1126 ـ 9 أيلول / سبتمبر 2005‏

يقول الإمام السيد موسى الصدر، في بعض خطبه، "نريد لبنان للانسان لا للمحتكرين، من لا يحب الانسان، ولا يخدمه لا يؤمن بالله عز وجل، نحن مع المظلومين من كل الطوائف".‏

وفي كلام آخر له، يتوجه به الى طلاب لبنان قائلاً: "أيها الطلاب اقضوا ليلة في قرى الحدود الجنوبية، مع سكانها الفقراء، في الكرنتينا أو عكار أو جرود الهرمل، وعيشوا تجربة المحرومين".‏

كلامه هذا، كان في مطلع السبعينات، سبعينات القرن العشرين قبل انفجار الاحداث في لبنان، وقبيل الاجتياح الصهيوني لجنوبه.‏

لقد أدرك السيد موسى الصدر منذ بداية عمله السياسي والديني، وبعد معاينته للواقع اللبناني، مدى المعاناة التي يعيشها الشعب وخطورة ما يتهدد مصيره داخلياً وخارجياً.‏

ففي الداخل، على صعيد التركيبة الاجتماعية الاقتصادية الطائفية، اتخذت الأزمة شكل انقسامات حادة، تغذيها مشاعر الفقر والحرمان، والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين الفئات المحرومة والمسحوقة، وطبقة الاحتكاريين الذين استولوا على مقدرات البلاد، وزادوا من جشعهم واستغلالهم لهذه الفئات المحرومة باستخدامهم كافة الأساليب المتاحة لامتصاص دمائها دون رادعٍ أو ضمير،‏

بالطرد والقمع والاضطهاد والاستغلال واستخدام السلطة بما تشكل من امتداد للطبقة الاحتكارية، يضاف الى ذلك تأجيج المشاعر الطائفية والعمل على تدمير بنية النقابات المطالبة بحقوق العمال والمستخدمين.‏

أما على صعيد الخطر الخارجي الذي كان يتهدد وحدة كيان لبنان وشعبه فقد ازدادت الضغوطات الغربية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة وحليفتها "اسرائيل"، واشتد أوارها مستهدفة استقراره ووحدة شعبه وكيانه السياسي، تساندها مجموعة من العملاء الذين باعوا انفسهم بثمن بخس تحت عنوان الدفاع عن لبنان.‏

أمام هذا الاستهداف الخطير الذي طاول لبنان أرضاً وشعباً، هب السيد موسى الصدر داعياً الناس بمختلف مذاهبهم وأديانهم الى ضرورة التدرب على السلاح لدفع الخطر المحدق بلبنان، محذراً من مغبة الرضوخ للأمر الواقع، قارناً واجب التدرب على السلاح بواجب الصلاة، نحن مستعدون لحمل السلاح والدفاع عن حدود الوطن، "استعملوا أظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعاً"، "علينا سلوك الدفاع عن الكرامة"، "اذا التقيتم العدو فقاتلوه"، "الدفاع عن جنوب لبنان يتم بالمقاومة وحمل السلاح"، ولم ينته موقف السيد عند هذا الحد، بل أعلن "ان الدفاع عن الوطن وحرية الانسان هو الدفاع عن الله".‏

هذه المواقف الحازمة واللافتة للامام السيد موسى الصدر، من الصراع الداخلي في لبنان ومن القضية الفلسطينية والعدو الصهيوني، والتي بلغت ذروتها بإعلانه الاستعداد للقيام بواجباتنا لأجل تحرير القدس، وجميع الأراضي المقدسة، وقوله "للقدس درب واحد هو البندقية"، "وأن شرف القدس يأبى ان تتحرر الا على أيدي المؤمنين"، ثم أردف الإمام "يجب ازالة الوجود الاسرائيلي من فلسطين، والجنوب رأس الحرب ضد اسرائيل، وقاعدة لتحرير الاراضي المقدسة"، اضافة الى هذه المواقف التي أغضبت الاميركيين والصهاينة على حد سواء، تجلت مواقفه الحكيمة باعتصامه في مسجد الصفا في رأس النبع احتجاجاً على ضرب التعايش السلمي في لبنان من خلال اشعال الفتنة الطائفية على يد العدو الصهيوني، ولم يكتف بالاحتجاج والاعتصام، بل أطلق نداءه مدوياً لننقل الحرب الى وجه العدو الصهيوني، لننقل الأسلحة من الشياح والنبعة الى الجنوب، لأن الخطر يأتي من "اسرائيل"، نحن لا نقبل الظلم ولا قتل الآخرين "أي اللبنانيين".‏

هذا التحدي الذي أطلقه السيد موسى الصدر، أرعب الدوائر الصهيونية والاميركية على السواء، فشعر هؤلاء بخطورة مواقفه على مشاريعهم الاستعمارية في المنطقة، وبدأ الاميركيون تحركاً سريعاً لمجابهة هذا التحدي الذي لم يخطر لهم على بال، فأوعز الاميركيون الى سفيرهم في لبنان جورج غودلي بأن يقوم بزيارة مجاملة واستطلاع للامام، ورفع تقرير بذلك الى وزارة الخارجية الاميركية لتتخذ ما تراه مناسباً.‏

بعد زيارة السفير للامام الصدر رفع تقريراً قال فيه "انه واحد من أكثر الاشخاص ان لم يكن الأكثر اثارة للاعجاب من بين الذين اجتمعت بهم في لبنان، يتمتع بعيون حادة راسخة برغم أنه تكلم بأسلوب متجرد وهادئ، استطيع ان أتخيله يحرض مجموعة من الرجال للجوء الى أي اجراء متطرف يرغبه، موهبته الخارقة واضحة واخلاصه الظاهر يبعث على الخوف...".‏

وما كاد التقرير يصل الى وزارة الخارجية الاميركية حتى أحيل الى الـCIA مقر المخابرات وبدأت الاتصالات والمشاورات بين المخابرات الاميركية والاسرائيلية، ورسم الخطط للقضاء على المقاومة اللبنانية وزعيمها آنذاك الإمام الصدر، يقول مدير المخابرات الاميركية لينفلي ان تحركات السيد الصدر في لبنان لو استمرت ستنشئ حالة مقاومة قوية في لبنان لا نستطيع بعدها السيطرة على المنطقة، لذلك "سوف نرسل لعملائنا ونطلب منهم خطفه واخفاءه"، ويجيبه نائب رئيس المخابرات الاسرائيلية: انها فكرة جديدة.‏

اثر الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1987 وأمام المخاطر التي تهدد لبنان وتطورات الأوضاع الناتجة عن الاجتياح قرر الإمام الصدر التحرك بسرعة لعقد مؤتمر قمة عربي بهدف عرض القضية اللبنانية وطلب المساعدة والدعم للمقاومة الباسلة ضد العدو الصهيوني حيث بدأ جولته بسوريا يرافقه مساعداه الشيخ محمد يعقوب والاستاذ عباس بدر الدين، ومن دمشق توجه الى ليبيا لتلبية دعوة رسمية بتاريخ 25 آب 1978 وكانت هذه الزيارة من ضمن جولته، لكن أخبار السيد الصدر ورفيقيه انقطعت منذ ظهيرة 31 آب 1978 حيث شوهدوا آخر مرة امام الفندق الذي يشغلونه، وبقي اختفاؤه مع رفيقيه حتى الآن لغزاً عالقاً يكتنفه الغموض بالرغم من الضغوط العربية والدولية واللبنانية لجلاء هذا اللغز المحير، وخاصة ان الدولة المضيفة عملت بكل وسائلها على انكار وجوده فيها. ان السيد موسى الصدر هو احد القادة القلائل الذين تركوا بصمات واضحة على المستوى اللبناني الداخلي وعلى المستوى الاقليمي والدولي، سواء على صعيد مقاومة العدو الاسرائيلي، او على صعيد صيانة وحدة الشعب اللبناني وتعميق العيش المشترك، وعلى الصعيد الديني والأعمال الخيرية والانسانية التي ساهمت الى حدّ كبير بنهوض الطائفة الشيعية من الحيف اللاحق بها على كافة الأصعدة، واللبنانيون جميعاً بكافة طوائفهم ومذاهبهم يحفظون لهذا القائد الفذ أياديه البيضاء في خدمة هذا الوطن ومجتمعه المكافح الذي أثبت انه جدير بالحياة، وأنه بمقاومته الاسلامية الباسلة سيبقى الأمل الواعد على طريق تحرير فلسطين والقدس التي قال عنها "يأبى شرف القدس ان تتحرر الا على ايدي المؤمنين".‏

محمد علي المسمار‏

2006-10-30