ارشيف من : 2005-2008

جسر الأئمة.. شناشيل العطش والماء

جسر الأئمة.. شناشيل العطش والماء

الانتقاد/ العدد 1126 ـ 9 أيلول/سبتمبر 2005‏

الى الذين ماتوا عطشاً في نهر العراق‏

حدثني أمير القافية الشاعر طلال حيدر ان جل المواويل العراقية قيلت تيمناً بالأئمة (ع)، وإن أكثرها شهرة قيلت بضجيع الجسر في بغداد وحفدته الذين عبروا جسر الغريب حزناً وتأسياً بالإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي قُتل في سجن الرشيد مسموماً وألقي به ثلاثة أيام على الجسر غريباً لا يعرفه أحد.‏

يقول الموّال العراقي:‏

"يا عين مولاياتي واتنعش مولايّا‏

جسر الحديد انقطع من دوس رجلايَّ"‏

عين الموال الحزين هنا هم الشيعة الذين يوالون اثني عشر إماماً هم حفدة النبي (ص) من ولد علي وفاطمة (ع). والجسر هنا هو ممر فوق نهر دجلة يدوسونه حفاة احتراماً لإمامهم المسموم فوقه، فينبري الحديد ولا تنبري الأرجل من السير فوق جسور الماء.‏

وبين النهر والعراق فراق، وبين الشيعة والماء نزال، فلا يلتقيان معه إلا ذبحاً على شطآنه، أو مكلومين عطاشى، او مقطّعي الأكف بين النخيل العالي فوق النهر، فلا يدنو الماء منهم ولا يدنون منه إلا قهراً. كيف لا وقد جافى الفرات يوماً إمامهم الثائر طلباً للحق الحسين بن علي (ع)، الذي سقى كربلاء نهراً من الدم ولم يسقِه النهر قطرة ماء.‏

يوم زرت العراق بين سقوط التمثال وارتفاع البيرق الأميركي رأيت كل ما فيه حزيناً وغريباً مسجى، النهرين والشيعة والنخيل والأئمة والجسر. والزائر عليه لكي يبلغ شواهد الأئمة الستة في العراق، عبور الجسور من سامراء الى بغداد فالنجف وكربلاء. والشيعة منذ خمسة عشر قرناً يعبرون فوق جسرهم خفافاً وثقالاً يحنون عليه وعلى إمامهم الذي سُجي يوماً فوق الماء.. ينحنون لتقبيل الظل العالي ولا ينظرون الى الماء.‏

حفاة راحوا يمشون فوق الجسر لزيارة باب الحوائج الإمام موسى بن جعفر (ع)، لكن شموخاً وعلواً فوق النهر، ولمّا وصلوا الضفة الأخرى حيّاهم ذلك الكاظم غيظه وغربته الحزينة، فاستهلوا فرحاً وندباً وراحت أكفّهم تبرّد بالماء قلوبهم وباللطم صدورهم، فسرى السم المدسوس في الماء الى الجسر، فمال وارتج ونادى "المنصور بالجهل والرشيد بالفتنة"، أن الجسر مسموم من الضفة الى الضفة من أول الوحي الى آخر التاريخ، فلا تقية عند الشياطين.. فماج الرجال واهتزّت حجارة الجسر المسمومة التي راحت ترجم مجرى النهر غضباً، وأمطر الجسر على الفرات عباءات سوداً يتعلق بها أطفال سمر احتشدوا فوق النهر كسبحة اليسر السوداء.. تسع وتسعون جثة يتبعها تسع وتسعون امرأة تتشح بألف من العشاق والأنبياء والأئمة، يحيطها نهران، واحد للغرق موتاً وثانٍ للغرق عشقاً، يزحفون نحو موتهم الأبهى وعشقهم المجلل بالذبح، يهربون من سيف الحجاج العربي والأميركي الى باب الحوائج، يعلقون فوقه التمائم والنذور والرايات الخضر والسود والصفر، كي يبقى نخيل العراق أخضر عالياً كعمامة الحسين (ع)، وليبقى الحزن أسود مهيباً كعمامة موسى الكاظم (ع)، وليبقى الأصغر تمائم للنسوة والفتيات فوق جباه الأطفال وشبابيك الضرائح، علّ الرجال يعودون يوماً من الحروب التي ولدوا منها وفيها ومعها ولها، فما انتهت الحرب منذ ذبح الحسين في كربلاء ولا عاد الرجال، بل استحالوا صورة مخبأة في الصدور تبحث عن نعوشها.‏

وحدهن نساء يجللن قامة النهر سواداً كي يعبر فوقه الرجال عندما يرجعون ذات مساء الى أبوابهم المشرعة على باب الحوائج وباب المنتظر وباب الذبح وباب الغربة وصولاً الى أبواب الجنة المعلقة فوق جسر الأئمة، وعلى شناشيل العراق الحاملة تمائم أهلها الموغلة في الذبح النبوي والحزن الشيعي القويم.‏

ولكي يصل الشيعة الى أئمتهم في العراق، عليهم أن يعبروا واحداً من بابين وجسراً: باباً للذبح وباباً للغرق وجسراً فوق النهر موصد الأبواب.‏

هم ما زالوا يعبرون سرداب الانتظار من سامراء الى علي، يخلعون خوفهم ويدخلون كل الأبواب يطلعون من كل السراديب. فعلي كبّر في الكوفة للصلاة، والحسين نادى فوق النهر أن الحق أقوى من ماء الغواية، والكاظم يأكل رطباً دسّت فيه الجاهلية أوثانها.. هم يعبرون كل الأبواب وكل الجسور كي يمنعوا السيف عن علي في صلاته الأخيرة، وليبعدوا الرطب المسموم عن باب الحوائج، وليلبوا نداء الغريب في نينوى.‏

هم يعبرون الجسر عشقاً كي يبقى جسر الأئمة عالياً، أقوى من الذبح وأصفى من السم وأمنع من الغرق. في العراق تشرق الشمس على كربلاء وتغرب على كربلاء، فسلام على النهرين في العراق، وعلى النخيل والمقدسين والصديقين والمغيبين والرسل والأنبياء، وعلى ضجيعي الحق آدم ونوح، وعلى الجسر سلام..‏

حسان بدير‏

2006-10-30