ارشيف من : 2005-2008

خداع "الرأي العام"

خداع "الرأي العام"

الانتقاد / مقالات ـ العدد 1125 ـ 2 أيلول/ سبتمبر 2005‏

"الرأي العام" عبارة تتداخل مع الكثير من العناوين والمقالات والخطب والمحاضرات، وغالباً ما يشدد عليها رجال السياسة، لكن إذا ما قررنا تفكيكها من دون كبير جهد، سنكتشف ان "الرأي العام" هو رأي وسائل الاعلام أو من يطلون عبرها من شخصيات سياسية وغيرها. فوعي الناس ممكن تشكيله وصوغه وتوجيهه ضمن منظومة من المعلومات والأرقام والإشاعات، وبعد تكثيف الشحن والاستعراض ومطاردة هذا "الرأي العام" من الشاشة الى الراديو الى الصحيفة الى اعلانات الشوارع، يجد أنه جزء من عالم يجب أن يشارك به ويعيشه، كما يجب أن لا يخالفه كثيراً كي لا يكون منبوذاً. ولا يظنن أحد من الطبقة المثقفة أنه بمنأى عن التأثر، فهذه الطبقة هي الأكثر تعرضاً لوسائل الاعلام، وهي أكثر من يُلقَّن كما يقول تشومسكي في كتابه "تواريخ الانشقاق".‏

التأثير الصحافي‏

"تغطي الصحافة الأحداث، وفي اختيارها الأحداث التي تغطيها وطريقة تغطيتها تشكل نتيجتها". هذا ما تقوله كاثلين هول جاميسون وبول والدمان في كتابهما "التأثير الصحافي". ويحاول الكاتبان ـ وهما على التوالي رئيسة "مركز أننبرغ للسياسة العامة" ونائبها ـ إثبات هذا الرأي من خلال تحليل دقيق للطريقة التي تعاملت بها الصحافة مع الحملات الرئاسية للعام 2000، والنزاع الذي دار على فرز الأصوات في ولاية فلوريدا، وردود الفعل على هجمات 11 أيلول. ويجادلان مرات عديدة أن الصحافة تنظم الوقائع في "أطر" أو "روايات" جاهزة سلفاً لا تلبث أن تتحول الى النظرة التي يرى "الرأي العام" من خلالها هذه الوقائع. فخلال الانتخابات الرئاسية في العام 2000 مثلاً، قررت الصحافة أن الصفة الأساسية لنائب الرئيس آل غور تمثلت بضعف دفعه الى اختلاق القصص ليحسّن صورته. أما الإطار الذي ألصق بجورج دبليو بوش فكان يتعلق بما اذا كان ذكياً كفاية، وكانت أي خطوات ناقصة يتخذها غور تتخذ دليلاً على دجله، فيما كانت زلاّت لسان بوش تثير تساؤلات حول ذكائه واستعداداته. ليس من الصعب أن يلاحظ القارئ أن كل الأمثلة التي يقدمها الكتاب على الأداء الصحافي الرديء تعود الى التغطية الخبرية التلفزيونية.. وفي سعي المؤلفين ليبدوا موضوعيين وعادلين، يتجنبان التمييز بين العمل الصحافي المرئي والمسموع بدلاً من ذلك الى "تأثير صحافي" واحد أحد.‏

خداع الرأي العام‏

للأرقام سلطة كبرى على مخيلة البشر، وهي ضرورية لإثبات الحقائق في الغرب. فلو قال أحدهم إن الفقر في صفوف الأولاد مشكلة، أو إن كائنات فضائية تختطف الناس، لوجب عليه إسناد دعواه بالأرقام. ولو افتقر أي قول لإسناد من هذا النوع لاعتبر مجرد رأي. ولو تقدم أي كان برأي مسند بالأرقام، لاعتبر حقيقة دامغة. لذلك يعمد القائمون على الحملات الاعلامية ودعاة الإصلاح والسياسيون، الى استخدام الأرقام لتدعيم آرائهم. كما يعمد الناشطون في أي حقل الى وضع تقديرات مبالغ فيها لحالات معينة لدفع الرأي العام الى التحرك الى جانبهم، فيما تعمد وسائل الاعلام الى نشر الأرقام كما هي من دون تدقيق. لكن التعاطي مع الأرقام لا يعكس بالضرورة رغبة في الخداع بقدر ما يدل على مسعى الى تسويق رأي ما.‏

"سلاح الدعاية"‏

تحت هذا العنوان صدر كتاب لـ"إينياسيو رامونيه" رئيس تحرير صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الشهرية. في هذا الكتاب يستعيد إينياسيو تحليلاً لأفلام الكوارث كان قد كتبه في العام 1981، ويركز على الأفلام التي تناولت حرب فيتنام والكوميديا التي تناولت الجيش الفرنسي في أواخر الستينيات، والسينما الملتزمة وأفلام "الويسترن ـ سباغيتي" الإيطالية على طريقة المخرج الشهير سيرجيو ليوني. فهو يعتبر أن الصورة السينمائية شكلت منذ النصف الأول من القرن الماضي أقوى الأسلحة الدعائية وأفعلها. فالسينما التي أصبحت عالمية قادرة على تحقيق انجازات تحتاج وسائل الدعاية التقليدية الى عمل مضاعف ووقت أطول بكثير لتحقيقها.‏

ويسلط رامونيه في كتابه هذا الضوء على التطورات الاجتماعية والتاريخية التي غالباً ما يجري تجاهلها، برغم أن المؤرخ المعروف بيار سورلان أثبت أهمية هذا النوع من التحليل للأفلام والصور. ومن خلال تحليله للهيمنة الاميركية على السينما ووسائل الاعلام، يلاحظ رامونيه ان هذه الدعاية التي تستند الى قوة وفاعلية تأثير الصورة مخاتلة، لأنها تحول العرض السينمائي الجماعي الى شأن فردي.‏

هوليوود‏

كواحد من أبرز البراهين الملموسة على تشكيل وعي الرأي العام من قبل جهات معينة، صدر في ماساشوسس سنة 2001 كتاب "صورة العرب الأشرار في السينما: كيف تشوه هوليوود صورة شعب بأكمله"، للأستاذ في جامعة شيكاغو جاك شاهين اللبناني الأصل. يعتبر الكتاب موسوعة بحد ذاته، فهو حصيلة عشرين سنة من الأبحاث والدراسات التي شملت مراجعة أكثر من ألف فيلم أميركي منذ أواخر القرن الماضي حتى سنة إصدار الكتاب.‏

ومن خلال هذه الأفلام يظهر العربي إما إرهابياً متعصباً دينياً ويكره الغرب، أو متخلفاً ثرياً يعيش مع الدواب ويقتني حريماً سلطانياً أو مجرماً وسارقاً. وشاهين الذي يدرّس علم وسائل الاتصال في جامعة شيكاغو، صحافي متمرس وناقد سينمائي معروف، سبق له أن أصدر العديد من الدراسات في السينما. ويرى شاهين أن صورة العرب سلبية ونمطية الى حد بعيد، في حين أن سائر الشعوب والأقليات العرقية في الولايات المتحدة كالآسياويين والسود والهنود الحمر، نجحت في إرغام هوليوود على تقديم صورة أكثر ايجابية وتوازناً عنها. ويشير شاهين الى أن السبب يعود الى سهولة استهداف العرب، فقد أخبره عدد من المنتجين الهوليوديين أنهم يتحاشون تقديم صورة ايجابية عن العرب كي لا يُتهموا بمحاباتهم، وأن التهجم عليهم "لا يكلف المنتجين أو الشركات أي شيء، لا بل إنه يعود عليهم بأرباح طائلة".‏

ويقول إن المشكلة تكمن في أن حجم الاعتراضات العربية على هذه الأفلام لم يصل الى درجة تشعر معها شركات الإنتاج بوجود خطر على مصالحها المالية، وهو ما فعلته الأقليات الأخرى.‏

"الإكسبرس"‏

بتاريخ 8 ـ 3 ـ 2001 صدر ملف خاص من جريدة "النهار" اللبنانية بالاشتراك مع مجلة "الاكسبرس" الأسبوعية الفرنسية، عن "المئة الذين يحركون لبنان"، وكانت الصدمة عند الكثير من المتابعين والمؤسسات الصحافية عندما أسقط الملف أسماءً وأخرج من قبعة الساحر أسماءً ما كان أحد ليفطن لها.‏

وكان واضحاً الانحياز الى الشخصيات المعارضة، وتحديداً تلك المعادية لسوريا. كما أظهرت الأسماء انحيازاً طائفياً فاضحاً.. وعندما دقق بعض المهتمين بالأمر اكتشفوا ان الأسماء هي من اختيار النهار فقط، ولا علاقة لـ"الاكسبرس" بأي اسم، بل إن هناك صفقة بين المؤسستين أن يصدر الملف تحت اسم "الاكسبرس"، وباللغتين الفرنسية والعربية، انما يقتصر الأمر على طبعة لبنان، أما الطبعة الفرنسية الواسعة الانتشار فقد صدرت بغلاف آخر ومواضيع أخرى لا تمت بصلة الى الملف المذكور. وهنا برز السؤال عن الحرص المهني والوقار في العالم "الأول"، و"التطنيش" عن قواعد المهنة في العالم "الثالث"!..‏

اذاً هناك من غمّس أصابعه مباشرة بزفرة الانحياز، وهناك من التهم الطبق ذاته، انما بالشوكة والسكينة.‏

عبد الحليم حمود‏

2006-10-30