ارشيف من : 2005-2008
"العرفان الشيعي" لخنجر حمية: بين التصوف والتشيع
الانتقاد/ قراءة في كتاب ـ العدد 1126 ـ 9 أيلول / سبتمبر 2005
شكّل التصوف الاسلامي في بدايات القرن الماضي مجالاً خصباً وثرياً للدراسات الاستشراقية، ومهما يكن الحكم الذي يطلق على الجهود الاستشراقية في هذا المجال، أو على حركة الاستشراق بشكل عام، فإن شيئاً أساسياً لا يمكن إغفاله هنا، وهو أن ما قدمه المستشرقون من أبحاث ودراسات ونشاطات، مهّد للدراسات الاسلامية آفاقاً واسعة خصبة وغنية. فلقد ساهم في وجود حركة علمية عندنا أفرزت باحثين ومفكرين انخرطوا في المساهمة في استكشاف هذا المجال الخصب وفي دراسة هذا العالم.
في هذا الاطار نقف على مساهمة جديدة تناولت بالدرس أحد أعلام ورموز هذا العالم، تقدم بها الدكتور خنجر حمية من خلال عمله الأكاديمي الموسوم بالعنوان التالي: "شيخ آمل: حياته الروحية والفكرية"، لنيل شهادة الدكتوراه. من دون أي تغيير يذكر على الصورة الأصلية سوى ما لامس العنوان ليصبح كما يلي: "العرفان الشيعي: دراسة في الحياة الروحية والفكرية لحيدر الآملي".
وقد حرص المؤلف أن يقدم لدراسته بالاشارة الى أمرين:
أولاً : بادر الى اعلان موقفه الحاسم من مسألة "العلاقة بين التصوف والتشيع"، بالتأكيد على ثبوت هذه العلاقة قائلاً: لم تعد المسألة مجرد تهمة يراد منها التشهير، فلقد تكشفت من خلال البحث العلمي علاقة بين العرفان الشيعي والتصوف واضحة جلية". وحول اختياره للآملي نموذجاً لهذه العلاقة ثانياً، قال: "واني بدافع من الرغبة في العناية بهذا التراث الخاص في التشيع، وبهذا الحيّز من التصوف الاسلامي، أقدمت على هذا المشروع واتخذت من الآملي موضوعاً لدراستي.. بهدف توضيح مذهبه الصوفي واستجلاء آرائه وتوضيح أفكاره وتصوراته في صورة متكاملة"، ذلك ان المؤلف يرى أن الآملي لم ينل حظه من الدراسة والبحث، على الرغم من أنه ـ كما يعبّر عنه ـ أحد أكبر المظاهر التي اجتمعت فيها أبعاد التصوف الروحي والانتماء الى التشيع كمذهب وروحانية. أما ما مضى من محاولات في هذا الشأن، وان كان لها فضل السبق، فإنها لم تعدُ طبيعتها المحدودة والعَرَضية. وقد أوجز المؤلف هذا بالكلمات التالية: "بحدود اطلاعي لم تُنجز الى الآن دراسة وافية شاملة تحلل مؤلفات الآملي وتستقرئ فكره، وتحدد ملامح شخصيته العلمية لا في اللغة العربية ولا في الفارسية ولا في اللغات الاوروبية".
والآملي، وفق المؤلف، هو حيدر بن علي بن حيدر. عُرف بألقاب كثيرة أشهرها الآملي، نسبة الى "آمل" البلدة التي ولد فيها ونشأ. وكانت ولادته سنة 719هـ ووفاته سنة 782هـ. يقول المؤلف: "يوحي كلامه ـ اي الآملي ـ بانحداره من علوية آملية عريقة كان لها شيء من النفوذ والثراء". درس الآملي مبادئ العلوم وأصول العقائد في بلدته أولاً، ثم في الجوار، وبعد ذلك في أصفهان التي لم يكمل فيها دراسته، ليعود من ثم الى "آمل"، ويشتغل بصحبة الملوك وينخرط في أمور السياسة بما في ذلك تولي المناصب الحكومية، ليصبح في مدة وجيزة من أصحاب الحظوة والجاه والثراء، ثم يعود وينقلب على ذاته ويعتزل السياسة بشكل لافت فيترك الأهل والمال والملك والسلطان، ويلبس "خرقة" قيمتها أقل من درهم، يصرّح الآملي أنه وجدها ملقاة من بعض الدور، ويخرج من "آمل" مباشرة ميمماً وجهه شطر مكة والمدينة قاصداً الحج وزيارة النبي (ص). ليفتح بذلك عليه زمناً من الهجرة والترحال ينتهي به في جوار المشهد الغروي المقدس، مشتغلاً كما يصرح هو بالرياضة والخلوة والمجاهدة والطاعة والعبادة، ومتفرغاً لطلب العلوم الحقيقية المدنية دون الكسبية التعليمية". خلال هذه المدة يلتقي الآملي ببعض الموحدين الكمّل والأولياء الذين أفاضت عليه صحبته لهم فوائد جمة، تُوجت بإجازات عدة تكشف عن علو مرتبته في الأخلاق والسلوك وعظمة منزلته في العلم والعمل. أشهر هذه الاجازات وأعظمها تلك التي منحه إياها الشيخ فخر الدين الحلي المعروف بفخر المحققين.
وقد استطاع المؤلف في هذا الاطار أن يميز بين طورين في حياة الآملي، أشار اليهما في النص التالي:
"شكلت هجرة الآملي من بلدته آمل باتجاه العتبات المقدسة نقطة تحوّل جوهري في شخصيته، ومحطة أساسية في مسيرة تكوينه الروحي بحيث يمكن اعتبارها حداً فاصلاً بين شطرين من حياته: يشكل الشطر الأول منهما طور التشكل والنضج العلميين والاشتغال بالسياسة، ويمتد من سنة ولادته حتى الثلاثين من عمره، أما الشطر الثاني، فهو طور الترحل والزهد والتقشف والرياضة الروحية والتأمل والتصنيف، حيث أنجز الآملي خلاله كل انتاجه الفكري.
في هذا السياق، يلاحظ المؤلف: "أن الآملي لم يستفد في بناء آرائه وتكوين أفكاره في مجمل قضايا التصوف، مما تعرف عليه وقرأه في ريعان شبابه من كتب الفلسفة وعلم الكلام، اللهم إعانتها له على تكوين موقف نقدي شديد القسوة من تراث الفلسفة وغيرها من العلوم المستندة الى العقل والتي تكتسب مشروعيتها منه، بالنسبة للآملي أن المعرفة الحقيقية هي تلك التي تنتهج الذوق منهجاً والفطرة طريقاً والنفحات الالهية سبيلاً، والالهام آلة ووسيلة".
أما العلوم الشرعية التي تلقاها في بداية أمره، فقد استعان بها لتأكيد صحة آرائه وصوابية تصوراته فقط، ولم يكن قط يعنيه الاشتغال على هذه المعارف وتحقيقها، ولا أن يكون صاحب رأي فيها.
وبعد، يضيف المؤلف "فتصوف الآملي ليس تصوفاً عملياً، فهو ليس صاحب طريقة ولا انتمى أصلاً الى طريقة صوفية على مدى مساحة اشتغاله بالتصوف وانتمائه اليه. نعم مجرد كونه صوفياً، يستدعي اشتغاله بجملة طقوس هي مقدمات ليس أكثر".
يتابع المؤلف "الآملي اذاً صوفي وليس فيلسوفاً، ولا هو فقيه ولا متكلم، واذا أردنا ان نستخدم مصطلحاً أكثر تعبيراً عن حقيقة هذا النمط من الجهد الصوفي الذي سلكه الآملي قلنا هو عارف".
وقد تبدى تصوفه وانتماؤه الصوفي في مجمل أعماله وعلى مدى مساحة منصفاته التي سخّرها لشرح آرائه وأفكاره في قضايا التصوف وموضوعاته ومشكلاته.
وهو ـ أي الآملي ـ شأنه شأن المنتمين الى تيار وحدة الوجود، يرى أن الوجود واحد لا كثرة فيه ولا تعدد. وهو الوجود الحق الواجب الذي لا يحيط به زمان ولا يحدّه مكان لا تحيط به معرفة، ولا يستنفده تصور أو ادراك، وهو الحقيقة التي لا ثاني لها ولا شيء يشبهها، والتي تتصف وحدها بالوجود على نحو الحقيقة، وما سواها وهم لا حقيقة له ولا وجود، لا في خارج ولا في ذهن.
والوجود الواحد هذا يتصف بالأوصاف السابقة في مرتبة ذاته، وإلا فإنه في مرتبة ظهوره وتجليه في أشياء هذا العالم يتصف بغير ذلك من الأوصاف، وهي أوصاف له لا في مرتبة ذاته انما في مرتبة ظهوره وتجليه، وليس العالم الا صورة هذا التجلي، فكل ما في العالم الآفاقي والانفسي صورة تجليه.
والآملي في تقرير وجهة نظره في تأويل القرآن، لا يخرج في أسلوبه ومنهجه عن منهج المتصوفة، والذي يؤكد على استكناه النص والدخول الى جوّانتيه، والغوص في خفاياه وأسراره ومعانيه بواسطة اشارات خفية لا تنكشف الا للخواص من الموحدين، ولا تساعد على ظهورها قوانين اللغة والالفاظ، والذي يؤكد ان الهدف من وراء انتهاج هذا الطريق هو رؤية الحقيقة الكلية للوجود، وإدراك صورة العالم بآفاقه وأنفسه الموجودة في كلمات القرآن وحروفه وآياته وسوره.
وبعد، فالآملي شخصية مميزة في تاريخ التصوف، جهد للجمع بين التصوف والتشيع، وبيان نقاط التواصل بينهما، وقدّم مجمل جهوده للتأكيد على حقيقة توحدهما، وليست محاولة الجمع بينهما في الواقع ـ بحسب الآملي ـ الا جمعاً بين الظاهر والباطن. اذ يقول: "يحمل الشيعة اسرار الانبياء والائمة بحسب الظاهر والشريعة، والصوفية بحسب الباطن والحقيقة" وهو بعد، سوف يستفيد منه تيار العرفان في ايران بالذات منذ القرن الثامن فصاعداً بغزارة، وسوف يتبدى تأثيره في الفلسفات ذات الطابع الاشراقي، التي تمزج بين الذوق والعقل والمعرفة الشهودية والبرهان العقلي، والتي تجلت في ابرز صورها في ايران في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين في شخصية صدر الدين الشيرازي الفيلسوف المعروف.
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018