ارشيف من : 2005-2008

اعتمدها بيكاسو وبراك وديوشان وسيزار: النفايات في الفن

اعتمدها بيكاسو وبراك وديوشان وسيزار: النفايات في الفن

الانتقاد/ ثقافة ـ العدد 1118 ـ 15 تموز/ يوليو 2005‏

يبدو أننا نظلم الزبالة كثيراً في أدبياتنا اليومية، فلا نستعمل هذا اللفظ إلا لوصف الأشياء القبيحة أو السيئة. لكننا اذا استعرنا أسلوب الفيلسوف التفكيكي جاك دريدا وحاولنا تفكيك الفكرة وفرز الزبالة، فلربّما قد نعود بإجابات أخرى.‏

البداية مع التكعيبية‏

بدأت الزبالة بالتسلل الى عالم اللوحة والمنحوتة مع تطور الحركة التكعيبية مع بيكاسو وبراك، فدخلت عناصر أخرى الى العمل مكانها في الأصل هو الزبالة، فأُلصق ورق الجرائد والمطبوعات من كل الأنواع والمحفورات وقطع القماش بهدف رفض اصطناعات اللون الذي تولده الريشة. وكان المقصود أيضاً تحقيق عمل واقعي في وضع الشيء بذاته على اللوحة.‏

ثور بيكاسو‏

لقد كانت الزبالة مرجعاً كبيراً لا بل وحيداً لمنحوتات بيكاسو التي يقدر ثمنها حالياً بملايين الدولارات.‏

كان بيكاسو يزور مكبات الخردة ويفتش بين الأطلال على شكل ينطلق منه الى عمل جديد.. وفي إحدى المرات عثر على دراجة هوائية، فأخذها معه الى محترفه وحوّل مقعدها الى وجه ثور ومقودها المعقوف الى قرنين! هكذا وبكل بساطة وُلدت واحدة من أشهر منحوتات هذا الفنان الذي يتصدر لائحة أهم أسماء الفنانين في القرن العشرين.‏

عجلة ديوشان‏

وأيضاً في جو الدراجات الهوائية نتوقف عند عمل الفنان الفرنسي مارسيل ديوشان الذي استلم إحدى منحوتاته منها، وقد كانت عبارة عن عجلة دراجة موضوعة على كرسي.. هكذا مباشرة وبلا لف أو دوران أو فذلكات تقنية وفنية. وعن عمله هذا الذي نفذه ديوشان سنة 1913 يقول: "عندما وضعت هذه العجلة على الكرسي لم تكن هناك أي فكرة لإنتاج عمل فني، كانت نوعاً من التسلية. بالنسبة الي لم يكن لديّ أي سبب خاص، ولم يكن لي أي هدف لكي أعرضها كعمل فني.. رؤية هذه العجلة وهي تدور مريحة، إنها ناعمة في دورانها، ومشاهدة هذه العجلة وهي تدور تختلف عن مشاهدة الأشياء اليومية المملة".‏

تحطيم الفن‏

لقد سلك الفنان "وولف فوسيتل" مساراً مغايراً هدّاماً متطرفاً بلغ حده الأقصى حين دعا بعض أتباعه الى تحطيم الفن، فنظم حملات دعا فيها الى تحطيم صناديق الموسيقى الموجودة في المقاهي في بعض الدول الأوروبية، ووزع في مدينة كولونيا دليلاً مصوراً يحث فيه الناس على زيارة أنقاضها وآثارها المهدمة.. أوليس هذا الحطام زبالة؟!‏

تحطيم السيارات‏

أما "سيزار" فقد اعتمد في منحوتاته على نفايات من نوع آخر، فقد كان يذهب الى معمل مختص بالإفادة من المعادن في ضواحي باريس، حيث كان يقف قبالة إحدى الضاغطات الأميركية الحديثة، يتفحص حركات الرافعات وهي تضغط شاحنة صغيرة أو كدساً من أفران المطابخ.‏

لقد شكل هذا الحطام المكعب المعجون بعضه ببعض منهجاً عُرف به سيزار.‏

درابزين‏

لم تبتعد "لويز بنفيلسون" عن مناخات الحديد، فاشتغلت على منحوتاتها من مواد عدة: قوائم الدرابزين، أرجل كرسي أو منضدة، شظايا قوالب، كتل بسيطة من الخشب.. إنها تختار هذه المواد وتركبها أجزاءً، كل جزء له تكوين منفصل.. قد يترك التجميع بلونه الطبيعي أو يطلى بالأسود أو الذهبي.. الأمثلة لا متناهية عن هؤلاء الذين قصدوا مكبات النفايات سراً أو علناً لتشكيل أعمالهم.‏

تلاشي الفن‏

يندرج فن اليوم كرد سريع وآني على مستجدات عصر لاهث يصعب مجاراته. وتنبع آنيته من المفاهيم الفنية والمواد المستخدمة لتنفيذ العمل الفني.. كل المواد يمكن استخدامها في الفن الحديث بغض النظر عن قيمتها وقدرتها على تحمل عامل الزمن.‏

إن عدداً لا يستهان به من هذه الأعمال يستقر في متاحف الفن الحديث، وبعضها يتوسط بأشكاله الاستفزازية جدران العمارات الوظيفية، وينتصب البعض الآخر كملامح تزيينية في المعارض والمتنزهات.‏

يرى البعض أن هذه الأعمال لا تمت بأي صلة الى عالم الفن، وهي أعمال لا تعدو كونها زبالة بكل ما للكلمة من معنى ورائحة. وكل ما في الأمر أن هناك منظومة من المفاهيم المغلوطة والمصطلحات المفبركة والأعراف المستحدثة يُروّج لها لدوافع عدة ومنطلقات غير مبررة، ستقود الفن في النهاية الى التلاشي والذوبان في أسيد المعايير المفقودة.‏

وهناك من يسأل عن مكان الحلم والتأمل والرومانسية الذي كان يقدمه الفن في السابق؟ وهل صناعة الدهشة وتحطيم القيود وبناء الحرية وإلغاء العلاقة مع التاريخ والسائد، هل هذا يستأهل أن نمحو أعرافاً أرست حضوراً في التاريخ لا نزال نشهد بعظمتها وعبقريتها؟‏

من القمامة قد نولّد الجمال أو.. القمامة!‏

عبد الحليم حمود‏

2006-10-30