ارشيف من : 2005-2008
الإمام علي (ع) والعدالة المنشودة
النموذج الأكمل للانسان في مقاماته المعنوية، الانسان القسطاس الميزان المعيار الذي عليه يقاس الناس فيتفاوتون في درجات الانسانية، وبعضهم يسقط، انه علي بن ابي طالب عليه السلام امير المؤمنين وسيد العارفين وقائد الغر المحجلين وحجة رب العالمين...
احدى ميزات الشخصية الانسانية الكاملة لأمير المؤمنين عليه السلام كانت العدالة، العدالة مع نفسه، العدالة مع الآخر، العدالة في تقواه، مع ربه، ولقد توزعت هذه السمة على سلوكياته وأدبياته وأقواله وأفعاله، وكل ما بدر عنه وترشّح. ولقد كانت هذه العدالة تامة الى الحد الذي يصعب معها على الآدميين مهما بلغوا ان يتمثلوها بتماميتها فتخفف عنهم وتلطف بهم وقال: ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد..
ومن جملة ملاكات العدالة ومكامنها، العدالة مع الناس، إنصافهم والحلم بهم والرأفة معهم، وخفض الجناح لهم والسعي في حوائجهم ورعاية شؤونهم، والتخفيف عن كواهلهم ومساعدة فقرائهم والحنو على أيتامهم وأراملهم، ورفع الظلم عن المظلومين، والشدة على الجفاة الظالمين، والمساواة في الإنفاق من بيت المال، وحرمان نفسه وإعطاؤهم، وصلة من قطعه، ومشورة من استنصحه، وإسداء النصح لمن ناوأه. وكل ذلك مع التواضع وسعة الصدر وتحمل الاذية والغض عن الافتراء، والصبر على البلايا والنوائب والمحن والشدائد، والثبات على الحق، والصبر في ذات الله، وطلب رضاه مع المعاناة والألم والشدائد والغصص والكلوم التي لحقته من أمته وقومه، هو وأهل بيته وزوجته وأبناؤه.
ومن جملة مؤشرات العدالة في سلوك الامير عليه السلام، ما قام به تجاه بيت المال عندما كان حاكماً، وقضية إنفاقه وعدالته في الانفاق، وعدم تفضيله لعربي على أعجمي، ولا حر على عبد، ولا ابيض على اسود، ولا قرشي على عامي، ولا مدني على مكي، ولا مهاجر على انصاري، كما لم يقدّم اصحابه ومريديه وأقاربه وحاشيته، ولم يبعد مناوئيه ويحرم أعداءه ومبغضيه وشانئيه، وأعطى كلاً بحسب وضعه وإمكاناته وحاجاته وسعة او ضيق ذات يده، وكثرة او قلة عياله...
ومن المفردات الهامة التي تعني قضية العدالة عند الامير عليه السلام، مفردة الفقر والعمل على محاربته ومواجهته والسعي للحؤول دون توسعه وانتشاره، حيث شدد الإمام علي عليه السلام على ان الفقر بمعناه الاجتماعي داعٍ الى الكفر، فالفقر آفة ونتائجها الجهل والتخلف والذل والضعف والمهانة، وهذه النتائج تشكل أرضية خصبة للكفر، فقال عليه السلام: "ما دخل الفقر داراً الا ودخل الكفر وراءه"، ولان العدالة تقتضي توفير المناخ للعبودية وإتاحة الفرصة للناس من اجل التوجه الى غاياتهم السامية، ولان الفقر يمثل عدم استقرار وحالة اختلال في ميزان العدالة، ولانه ينتج عن عدم قيام الناس بواجباتهم تجاه بعضهم، ولانه مخلّ في اسباب الشكر لله وداعٍ الى الجحود والنقمة والاعتراض على حكم الله وقدره، لاجل ذلك كله سعى الإمام علي عليه السلام الى توفير العوامل المساعدة على تقليص الفقر والحد منه تمهيداً لازالته، وهذا السلوك من الإمام عليه السلام يجعلنا نبحث اكثر في جملة التشريعات الالهية الاجتماعية التي اكدت على اهمية ازالة اسباب الذل والهوان من اجل عيش الانسان بعزة وكرامة، فالمحورية في رسالة الاسلام هي للانسان، والانسان في الاسلام يجب ان يكون عزيزاً، ومن اسباب عزته كفافه وتوافر حاجاته وتلبيتها، فالاسلام معني بأحكامه ان يوجهها نحو تأمين متطلبات العيش للانسان ليكون عزيزاً، من هنا كانت الزكاة احد اهم الاعمدة في تشريعات الاسلام، واعتبر المانع لها وعدم المؤدي لها والذي لا ينفق ماله وتبخل نفسه عن الاعطاء لهذا المال، اعتبر هؤلاء من المشركين كما ورد في الآية القرآنية:
"... وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون".
وأيضاً كما ورد في حديث الرسول (ص): "من منع قيراطاً من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة".
وكل ذلك مبني على وجهة الاحكام وقبلتها المتمثلة بمحورية الانسان كعزيز مكرّم، فإن عدم دفع الخمس والزكاة يعني شيوع حالة الفقر وتوسعها وانتشارها مع كل مفاعيله التي تؤدي الى الشرك والكفر والجحود، وهي من المفاعيل المنفية في الاسلام، والتي جاء لرفعها ونقضها وإزالتها، فالعدالة في المال تعني إنفاقه وصرفه في وجوهه وعدم تكديسه، فإن جمع المال مع عدم الانفاق صورته يوم القيامة كما ورد في الآيات انه يحمى هذا المال بنار جهنم (الذهب والفضة) وتكوى بها جباه وجنوب وظهور المكدسين الكانزين، والله سبحانه قال "ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده".
وإن الحد الادنى من الآثار السيئة لعدم الانفاق هو شعور الانسان الفقير بالهوان والضعف وعدم القدرة على تحقيق الذات، والانشغال بتوفير اسباب الحياة. والحد الادنى في الاطار الاجتماعي هو عيش النقمة تجاه النظام او السلطة التي لا تفي بحاجات الناس ولا توفرها، فإذا كان هذا النظام اسلامياً فالنقمة تحل عليه من جماهير الناس المحرومين والفقراء، ويمكن ان يسقط هذا النظام بناءً على حجم النقمة واتساعها.
فالعدالة التي أسس لها الإمام عليه السلام في سلوكه تقضي بإنفاق المال، وتقضي بالانصاف في توزيع الثروات وأملاك بيت المال، واقتضت مع الامير قسوة الحاكم على نفسه وتقشفه عليها مع الانفاق والتوسعة على الناس، كل ذلك كان بمثابة مؤشرات للعدالة التامة التي سلك سبيلها امير المؤمنين عليه السلام...
فأين نحن من هذه العدالة؟!...
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018