ارشيف من : 2005-2008
علي (ع) نموذج الانسان الكامل
إن الحديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لهو ـ دون منازع ـ حديث عن أعظم رجالات الانسانية على الإطلاق، بعد رسول الله محمد بن عبد الله (ص) في كل زمان وفي كل مكان، ذلك أن سيرة شخصية الإمام علي الفذّة، العميقة الغور في انسانيتها ومروءتها، الجامعة، النادرة، المشتملة على غُرر شمائل وصفات مغرقة في الشفافية والطهر، تؤازرها التحاماً، مزايا اخلاقية عالية عزّ نظيرها في الخلق في الرفعة والجلال والسمو، لذا فإن سرد سيرة هذه الشخصية، الفريدة من نوعها، ليس سوى سرد سيرة "الانسان الكامل" هذا الذي صوّره العلامة الشهيد مرتضى المطهري (قده) أصدق وأروع تصوير في كتاب له يحمل هذا العنوان، إذ يقول فيه :"ان النبي الكريم نفسه (محمد) نموذج للإنسان الكامل، وعلي (ع) نموذج آخر لهذا الانسان".
فمعرفة عليّ الحقة ـ بحسب الشهيد المطهري ـ هي معرفة الانسان الاسلامي الكامل، لا من حيث اسمه ونسبه وهويته، بل معرفة علي هي معرفة شخصيته لا شخصه.
لقد جاء الاسلام الى الدنيا ليصنع الانسان الكامل أو النموذجي الذي يكون مثالاً وقدوة، أي رمزاً للاحتذاء.
هذا وبما أن الانسان هو حقيقة مركّبة من الجسم والروح، فإن انسانيته تعتمد بالدرجة الاولى على امتلاكه عدة أمور معنوية (روحية ـ خلقية) معيارية، هي التي تهبه قيمة وشخصية بين بني جنسه، وتلك هي التي يعبّر عنها بمصطلح "القيم الانسانية".
وهذه القيم عديدة وهي أنواع متنوعة ومختلفة: العقل ـ الحب ـ المحبة ـ العدالة ـ خدمة الناس ـ العبادة ـ الحرية ـ العشق الالهي ـ الزهد ـ الإيثار ـ الجهاد في سبيل الله ـ الى آخر السلسلة، وهي في الانسان استعدادات وقابليات مختلفة. ولكي يرتقي الانسان الى أعلى درجة في الكمال الانساني المطلق، ينبغي عليه ألا يتمسك بواحدة منها فقط ويهمل ـ ما دونها ـ سائر قابلياته الأخرى ويعطلها عن العمل.
فالإنسان الكامل هو الذي تنمو فيه جميع قيمه الانسانية بانسجام وتناسب تامين، لا تختلف واحدة عن أخرى في النضج والنمو، حتى تبلغ ـ مجتمعة ـ أعلى مستوياتها عنده، فيصبح للناس إماماً وقدوة ومثالاً يحتذى، وهذا عين ما كانه الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، فإضافة الى فطرته التي ولد عليها، فقد تلقى ـ منذ نعومة أظافره ـ تربية استثنائية خاصة كان لها تأثيرها السحري الخاص على وعيه ونشأته، فطبعت شخصيته بطابع استثنائي دامغ، بعدما أودعت فيها كل القيم الانسانية المعنوية التي صيّرته إنساناً كاملاً، بل أصدق نموذج للإنسان الكامل.
فمحمد الذي قرن الله سبحانه، به من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، قد تكفّل ابن عمّه علياً واختاره ليعيش معه في داره بفعل ظروف اقتصادية ضاغطة على عمه أبي طالب، وكان عليّ ـ وقتها ـ في السادسة من عمره، ولذلك فإنه نشأ وترعرع برعاية محمد، وكان عليّ يتبعه ـ كما قال (ع) هو نفسه "اتباع الفصيل في أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به".
إذاً، فقد كان لمحمد (ص) الأثر البيّن في تكوين شخصية عليّ الى حين كلف الله ـ عزّت آلاؤه ـ محمداً في حمل أعباء الرسالة الإلهية الاسلامية، وبعثه رسولاً له لنشرها على العالمين. وذلك للارتقاء بالإنسان الى أعلى درجات الكمال الروحي والمعنوي ليصبح انساناً كاملاً، أي نموذجياً.
ولقد كانت شخصية علي مؤهلة التأهيل الصحيح ومعدة الاعداد المطلوب والمناسب لما ملكت من استعدادات وقابليات للايمان بالرسالة الالهية الحقّة (خاتمة الرسالات جميعاً) وتبني كافة تعاليمها، بالاندماج الكامل بأنوار اشراقاتها والالتحام النهائي بسطوع تجلياتها، إذ أنه كان مطلعاً ـ لحظة بلحظة ـ على عبادة معلمه رسول الله وممارساته الروحية وتحولاته الفكرية، فكان يتعبد معه وينهج نهجه ويسلك سبيله، حتى اتصف ايمان علي بخالقه سبحانه وتعالى بالصلابة وجذرية اليقين وأصالته، فهو أول من صدّق، من الرجال، دعوة رسول الله (ص) الذي خاطبه بقوله: "أنت أخي ووصيي ووزيري وخليفتي من بعدي". ويشير الإمام (ع) الى أن الرسول (ص) "كان يجاور في كل سنة بحرّاء (غار حراء، المكان الذي كان يتلقى فيه الرسول تعاليم الوحي) فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد، يومئذٍ في الاسلام غير رسول الله وخديجة (زوج الرسول) وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة".
فالخصائص الروحية التي اتصف بها علي (ع) وارتقت به بلوغاً أرفع حدود الانسانية كانت بفضل صياغة شخصيته بالتربية والتعليم الاسلاميين (الإلهيين) فكان علي وفق ما يريد القرآن وعلي وفق ما يريد الاسلام، وكان مثالاً أعلى للانسان الكامل العالي والمتعالي الاسلامي حتى قيل: "ان علياً هو القرآن الناطق وكتاب الله هو القرآن الصامت".
والشاهد أنه ما تمت في شخصية علي (ع) ولا تعززت، بلا قابلية واحدة ولا استعداد واحد، فقط على حساب باقي قابلياته واستعداداته الأخرى، بل نمت في نفسه كل القيم العظيمة الى حدودها العليا في انسجام وتناسب.
فلم يكن علياً ذلك العابد المحض أو الزاهد المحض أو المجاهد المحض او الحرّ المحض أو العاشق الالهي المحض أو العاقل المحض، الى ما هنالك من مسائل القيم التي لا تجعل من حامل احداها ـ دون غيرها ـ انساناً كاملاً، فإذا ما اتصف انسان ما بصفة الكرم مثلاً يقال ان فلاناً كريم، لكنه لا يقال عنه انه انسان كامل وهكذا..
لقد وصل عليّ الى كماله الانساني الأعلى والمطلق وذلك لعدم تغليبه قيمة انسانية واحدة على حساب القيم الأخرى، تلك التي يؤيدها الاسلام بقوة، بل كانت كلها في شخصيته متساوية ـ علماً وعملاً ـ بتساوق وتناسب وانسجام واقتدار يفي كل قيمة حقها المشروع في أبعاد حدودها القصوى بتبلور مضمونها لديه في أوانها وظروفها الخاصين، هو الذي عني بها جميعاً بالتربية والنماء معاً في حالة متعادلة ومتوازنة، الى أن بلغت فيه الحد الأعلى من الرشد بشروطها الثلاثة: "نمو جميع القيم، وبلوغها الحد الأعلى في النمو، والتناسب في نموها".
فما شاب شخصيته أي انحراف ناشئ يسبب الافراط بحق من الحقوق البشرية والالهية على السواء، ويوضح الشهيد مطهري في هذا المجال "ان العلماء يقولون ان حقيقة العدل ترجع الى التوازن والتجانس، والتجانس هنا، يعني، أنه في الوقت الذي تنمو فيه جميع قابليات الانسان يكون هذا النمو بصورة متجانسة"، ووفق هذه القاعدة المثالية ومن منطلقها كان علي بن ابي طالب الانسان العادل الحامل للروح الالهية، بمصاديقها العلمية والعملية، شهد له بذلك العدو والصديق.
قال رسول الله (ص): "ان لكل يقين حقيقة"، وحقيقة يقين العاشق الالهي تلميذ الوحي والنبوة، ليست سوى حقيقة يقين من رأى ربه بقلبه فامتثل له بكل جوارحه، وما ضؤُل وهج اشعاعات يقينه المكين، طرفة عين: "والله لو انكشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً".
أحمد ياسين
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018