ارشيف من : 2005-2008

الزهراء(ع) والاخلاق العظيمة

الزهراء(ع) والاخلاق العظيمة

الثالث من جمادى الآخرة، ذكرى شهادة الزهراء (ع) على رواية، وهي الشهادة السر التي توجت مسيرة سيدة نساء العالمين فكانت حياتها وشهادتها ودفنها من الأسرار التي أحاطت بهذه الشخصية العظيمة، والتي سوف تظهر بعض معالمها على يدي آخر حفيد لها السر المستودع فيها الامام المهدي (عج) عندما يكشف عن تربتها وقبرها للموالين والمحبين والآدميين جميعاً، ويفصح عن ذلك السر الذي طواه ذلك اللحد والحاكي عن المقام العظيم للزهراء عليها السلام.‏

ولقد كانت عليها السلام قدوة للعالمين، في عبادتها وسلوكها ومعارفها وأخلاقها، وكان من جملة السلوكيات الكاشفة عن عظيم اخلاقها، ما حكاه القرآن الكريم في سورة الانسان عن اطعام الطعام على حب الله للمسكين واليتيم والأسير، وإيثار هؤلاء على نفسها وأولادها وبعلها مع الخصاصة والقلة، والمهم في هذه الحادثة هو ما يمكن استنتاجه من معايير عبادية وسلوكية للاقتداء بها حيث وبالرغم من أن الحادثة محدودة وموضوعها كذلك فإن هناك خلاصات هامة يمكن استنتاجها هي:‏

ـ أهمية النية بالنسبة للفعل، حيث أكدت الآية على حب الله كمقصد للفعل، بما يشير الى تقوُّم أي فعل بوجهته وقبلته، وكلما كانت الوجهة إلهية وكان المقصود منها هو حب الله والتقرب منه، كان الفعل الهياً وعظيماً، أي أن العظمة ليست مرتبطة بحجم الفعل بل بالنية المقوّمة له، والدافعة اليه، والتي قد تحوله من عمل عادي لا يتوقف عنده الناس الى عمل جبار تخصص له آيات من القرآن تماماً كما فعل الامام علي (ع) حين تصدقه بالخاتم على ذلك الفقير وهو راكع في محرابه فنزلت آية "ويؤتون الزكاة وهم راكعون".‏

أهمية نفس الفعل، حيث كان بالامكان أن يتعرض الله سبحانه لعمل أخلاقي أو عبادي آخر قامت به الزهراء عليها السلام، وكانت فيه مخلصة، وكانت نيتها لوجه الله وابتغاء مرضاته، لكن هذا التخصيص لموضوع الإطعام له مدخلية وله موضوعة في الحادثة، وهو ان دل على شيء فإنه يدل على واحدة من السلوكيات الاجتماعية التي ركزت عليها الشريعة الاسلامية كمؤشر على عبادة الله، فكان الاطعام عبادة، وكان حرمان الناس مع الاستطاعة معصية، بل أحياناً عصياناً كبيراً ينبئ عن شرك صاحبه أو كفره بالآخرة كما ورد في سورة الماعون "أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم ولا يَحُضُّ على طعام المسكين"، فَدَعُّ اليتيم والقسوة عليه، وعدم الحض على طعام المسكين هما مؤشران تامان على التكذيب بالآخرة وبالمعاد، وهنا ندخل في بحثٍ يتعلق بمعايير السلوك على ضوء شريعة الله، وهو بحث يحتاج الى تطويل، لكن ما يمكن ذكره باختصار هو حقيقة انكشاف الالتزام بالشريعة عقيدة ومنهجاً من خلال السلوكيات الفردية التي قد يستصغر أحدنا شأنها مع أن كاشفيتها ودلالتها على الالتزام أو عدمه كبيراً جداً، كما هو الحال في رعاية اليتيم وإطعام المسكين وقضاء الحوائج وإعانة الناس وإنفاق المال وغيرها من السلوكيات ذات البعد الاجتماعي التي أكد عليها الاسلام، واعتبرها معايير سلوكية تدلل على مستوى الالتزام بالاسلام كعقيدة وكتربية وكقيم وأخلاق.‏

أهمية التربية بالسلوك وبالممارسة بدل التنظير والحكاية، فالقرآن الكريم أعطى شواهد كثيرة على هذا النمط من التربية، أي بالسلوك، فهو قد حكى عن صدقة الامام علي (ع) بالسلوك، وعن إطعام الطعام للزهراء (ع) بالسلوك، وعن عفة يوسف (ع) بالسلوك، وعن صبر أيوب بالسلوك، وعن حسد أخوة يوسف بالسلوك، وعن حسد قابيل لأخيه بالسلوك، وعن كبر ابليس بالسلوك، وعن استكبار فرعون وقارون بالسلوك، وهناك مشاهد وقصص وأحداث كثيرة كان المقصود من خلالها القيم والاخلاق والفضائل، تمت حكايتها بالسلوك والفعل والممارسة، وهذا النمط التربوي هو ما تعرضت له النظريات التربوية الحديثة التي أكدت على أهمية النماذج في التوجيه التربوي وفي صناعة العادات والسلوكيات، وهذا ما ركز عليه الاسلام منذ مئات السنين، حيث عبر عن الفضائل والرذائل وعن العبادة والمعصية بأفعال وأعمال وممارسات حكت عن نماذج مثالية عليا أو سفلية، والمطلوب من الانسان ان يقتدي بالامثال العليا، وان يجانب أمثلة السوء ونماذجه.‏

ونستخلص من كل ما مر أن الاسلام يركز على السلوك في منظومته، ولا يكتفي بالاشارة الى الاعتقاد والقناعات، فقد اعتبر الاسلام ان الأفعال هي الكاشف الحقيقي عن القناعات، وهو لم يقبل بقول المرجئة وغيرهم بأن الايمان بالقلب ولا علاقة له بالعمل، بل أكد على أهمية العمل الصالح في الدلالة على الايمان وفي القبول به، وهذا العمل ليكون صالحاً فإن المقوّم الاساسي له هو النية التي توجهه صعوداً أو نزولاً، وأن نية الاسلام المقبولة هي التي تجعل قبلة الاعمال واحدة، وهي حب الله والتقرب منه كما فعلت الزهراء عليها السلام في عملها بإطعام الطعام على حب الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً.‏

بلال نعيم‏

الانتقاد / مقالات ثقافية ـ العدد 1119 ـ 22 تموز/ يوليو 2005‏

2006-10-30