ارشيف من : 2005-2008

بلاغية النص في نهج البلاغة : الرسالة الى أبي موسى الأشعري "نموذجاً"

بلاغية النص في نهج البلاغة : الرسالة الى أبي موسى الأشعري "نموذجاً"

محمد علي المسمار‏

لا تترك لنا، هذه العجالة، لا في الزمان ولا في المكان اللذين منحا لنا، للخوض بعمق في بلاغية النص الذي يتضمنه نهج البلاغة، وما فيه من جمالية آسرة، تطغى على الروح والوجدان، مكتسحة جُوّانية المرء بما تحمله من نبض الحياة وطلاوة قطوفها.‏

فالخوض في كلام أمير المؤمنين عليه السلام، لاستخراج ما فيه من كنوز البلاغة ودررها والتي هي جوهر محض، لا يرقى اليه المخلوق، لما له من علاقة بمعدن الوحي وينابيعه الثرّة بسموه ورفعته، حتى قيل فيه: انه "دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق". وكي لا نخبط عشوائياً بين نصوص النهج" آثرنا اختيار أحد النصوص القصار، الذي هو كتابه الى أبي موسى الأشعري، حين بلغه عنه تثبيط الناس على الخروج اليه، لمّا ندبهم لحرب الجمل: والواقع صفحة 610 ـ 611 من كتاب نهج البلاغة.. الصادر عن الدار الاسلامية، تحقيق السيد صادق الموسوي.‏

النص‏

من عبد الله علي أمير المؤمنين الى عبد الله بن قيس.‏

أما بعد‏

فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم رسولي عليك، فارفع ذيلك واشدد مئزرك، واخرج من جحرك، واندب من معك، فإن حققت فانفذ، وان تفشلت فابعد.‏

وأيم الله، لتؤتين حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك، وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك، كحذرك من خلفك، وما هي بالهوينى التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى، يركب جملها، ويذل صعبها، ويسهل جبلها، فاعقل عقلك واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن كرهت فتنحّ الى غير رحب ولا نجاة. فبالحري لتكفينّ وأنت نائم حتى لا يقال فلان؟!‏

والله انه لحق مع محق، وما أبالي ما صنع الملحدون والسلام.‏

بعدما وضعنا هذا الخطاب النصي أمامنا، لا بد لنا من أن نتساءل عن استراتيجيته بسياقاتها المختلفة التي يمكن البناء عليها، والتداول فيها، والمحكومة عموماً بملابسات التلقي في جوانبه الأدبية التي تنفصل فيه عن الجانب الديني.‏

ان القارئ لبلاغية الإمام في نهج البلاغة ونصوصه، يدرك وهو يناقش محاوريه ومناظريه، أن لديه منطلقاً أساساً يفصح عنه منذ البداية وهو: أن الكلام ـ النص يجب أن يحقق تأثيره ببلوغه ذروة بلاغيته وجماليته وإبداعيته، ولذلك فهو يراعي عناصر التواصلية ومكوناتها التي تنضوي تحت ثلاثة عناوين.‏

هي: الملقي/ المبدع ـ الخطاب/ النص الابداعي البلاغي/ المتلقي/ القارئ.‏

ان شرط البلاغية لأي مبدع، هو المعاناة والمكابدة والتأمل الذي تفاعل مع كيانه النفسي، وجوّانيته ومكامن قواها التي تلتقط الحقائق ودقائق أسرارها المتمازجة مع ما لحقها من ضيم ومظلومية، والتي تأخذ بتلابيب الروية والعقل، ولطائف ما ينفرد مستقاة من خصائص معانٍ ينفرد بها لتقديم صورة مركبة ومؤلفة يمتاز بها المبدع عن سواه.‏

وجمالية النص "النهجي" للإمام هو ما تحمله النياط التي تحرك وتتحرك بتوتراتها وفاعلياتها بين الأحوال النفسية، وما تحمله الألفاظ من طلاوة المعاني وعلائقها التي تنتج أسلوباً مخصوصاً، ومتميزاً بالتصاقه بالذات التي يرسم حدود التفاوت والتباين بين المبدعين وأساليبهم.‏

ان الأسلوب هو نتائج عقل المبدع وفكره، قبل أن يكون نتاج علاقة اللفظة باللغة، وهذا ما يشترط التناسق أولاً في العقل والفكر وبعدهما في الألفاظ، فمصدر التأثير والجمالية بالتأكيد هو العقل والنفس، وليس لغوياً لفظياً، فصفة الجمال توجد في جميع الأشكال والفنون التعبيرية، اذ تشترك كلها في المنطلقات النفسية، والانسجام والاتساق اللذان يظهران في التجليات والتمظهر في اللغة المنطوقة والمكتوبة والمرئية والمسموعة: فالأدب بجميع أجناسه مصدر للجمال والتأثير.‏

والإمام ينطلق في كلامه، من جملة تحقيقية تتضمن نبرة تهديدية انكارية، يستنفر في المتلقي قواه النفسية والعقلية، وينقله الى حالة من الاستعداد، تمنع عليه الجهات وتحاصره الا جهة الاستجابة التي وضعه الإمام أمامها، الا ان التأثير يمكن ان يتجاوز الجملة الواحدة الى صورة تتأسس في شكل مجاز أو كناية أو استعارة أو استفهام إنكاري. والذي بدا واضحاً في كلام الإمام الذي يقول فيه: فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك واشدد مئزرك، واخرج من جحرك، واندب من معك، فهنا التأثير قد تجاوز الكلام الأول بكنايتين متتابعتين أشد وقعاً وأكثر حزماً. فالكناية الأولى الدعوة الى الجهاد، وفي الثانية كنى بجحره عن مقره. ثم أردفها الإمام بعبارتين ايجازيتين لم تترك له منفذاً سوى التوجه الى المعركة، أو التخلي عن الولاية والابتعاد والانزواء، الا ان الإمام يواصل تهديده لهذا العقوق الذي بوّأه ولاية الكوفة بعبارات شديدة الوضوح، محكمة البلاغة، متلاحقة الايقاع، تعبر بوضوح عن غضب الإمام وعنف وصلابة موقفه تجاه المتقاعسين الذين ظنهم مخلصين للخلافة الاسلامية وما تمثله من قيم ومبادئ وتعاليم وحياة جديدة.‏

ويواصل الإمام كلامه بعبارات موجزة، مثقلة بالعناصر التي ترسم صورة الواقع المرير الذي أحدثه ولاة السوء في جسم الخلافة، ناقلاً الينا معاناته الممزوجة بالمرارة، وموقفه الصلب الذي لا يعرف المهادنة ولا اللين تجاه هؤلاء.‏

فلنسمعه يقول: "والله انه لحق مع محق، وما أبالي ما صنع الملحدون والسلام".‏

هذا الكلام الذي يسبر أغوار المتلقي، ويحلل سيكولوجيته مفتشاً عن أنواع الاستجابات التي تخيب أفق الانتظار، وتدمر أسباب التأثير السلبي الذي نتج عن التفاعل الذي يحصل بين المتلقي الذي هو أبو موسى الأشعري، والملقي الذي هو أمير المؤمنين عليه السلام. إن حضور عناصر التأثير في الخطاب والنص "النهج بلاغي" يجعله مخالفاً للكلام اليومي ويُبَوِّئُهُ مواقع الجمالية التي تحيا بحياة ملقيه متنامياً عبر اكتشافات العناصر التأثرية والتفاعل الكامنة فيه. ان العلاقة بين نهج البلاغة وقارئه علاقة تتميز بمظهر مضاعف تختلط فيه الجوانب البلاغية والجمالية بالجوانب التاريخية والاسلامية، ويستند مرجعياً الى غناه واغتنائه بالمقبلين عليه من جيل الى جيل، ليكون عبر التاريخ دينامية تواصل وتفاعل في الفكر العربي والاسلامي، تغتني منه الأجيال، ويغتني بها عبر ديمومة الزمن واستمراريته التصاعدية.‏

2006-10-30