ارشيف من : 2005-2008

رواية "مشهد البحر" لـ"طراد حمادة"

رواية "مشهد البحر" لـ"طراد حمادة"

الانتقاد/ قراءة في كتاب ـ العدد 1125 ـ 2 أيلول/سبتمبر 2005‏

مدارات العشاق‏

مسألة "الجبر والاختيار" واحدة من أقدم وأصعب المسائل الكلامية والفلسفية الاسلامية التي شغلت الفكر الاسلامي برمته منذ نشوئه.. وهذه المسألة يعالجها روائياً ـ بأسلوبه الفلسفي الخاص ـ الشاعر والروائي الوزير طراد حمادة في روايته الأخيرة "مشهد البحر"، الصادرة عن دار المحجّة البيضاء ـ بيروت.‏

في هذه الرواية الفكرية القائمة على التداعيات الذهنية الصرفة عبر الاسترجاع والتذكّر، يأخذنا المدّ الفلسفي العرفاني (الروحي) العميق الغور الى أبعاده القصوى، عبر تجليات عرفانية فيضيّة وكشفية، فيتضح أن ما نحن بصدده ـ هنا ـ إنما هو دراسة فلسفية بحتة، صبّ فيها صاحبها أفكاره ورؤاه الفلسفية، وأخرجها بقالب روائي ممتع ومشوّق عبر صياغة رؤية فنية خاصة متميزة، استخدم فيها التلميح والمجاز والرمز.‏

وكما هو حال معظم البحوث الفلسفية التي عولجت موضوعاتها معالجة روائية (جمالية)، فإن رواية "مشهد البحر" قد اتخذت اسم رواية تجاوزاً وتساهلاً.‏

فهي إذاً ليست رواية بالمعنى الحرفي، بل هي تجسيد تكويني لفلسفة عرفانية اسلامية جمعت فطرية الاستعدادات العقلية والقلبية البشرية، وتهيؤاتها الى التثقيف المعنوي العالي للروح الانسانية.‏

شخصيتان رئيسيتان تتناظران في هذه الرواية: الراوي مجهول الاسم (قناع الكاتب) وصديقه سعيد الذي هو مَثَلَهُ الأعلى.‏

يخاطب الراوي سعيداً في أحد حواراتهما الكثيرة قائلاً: "الفلسفة هي الحياة"، فيؤكد الثاني معارضاً: "بل الحياة هي الحياة، ونحن نصنع فلسفتها على طريقتنا الخاصة".‏

وهكذا وعلى أساس نظرة فلسفية عرفانية خاصة، وضع الكاتب بحثه الفلسفي هذا على شكل رواية تروي ـ رمزياً ـ بواعث وإرهاصات نشوء المقاومة التي حرّرت الجنوب والبقاع اللبنانيين من الاحتلال الصهيوني في العام 2000 بإجماع أمر رجالها المخلصين، هؤلاء الذين تميّزوا بفلسفتهم الخاصة.. باجتماع شملهم وتوحد كلمتهم وتضافر جهودهم.‏

في تعقيبه على قول صديقه محمود: "ان طيور السماء تعبر المكان في تغيّرات الزمان"، يردف الراوي معرفاً نفسه وأصحابه ـ معشر الاخوان ـ معبراً عن حالتهم وأحوالهم، بإظهار طبيعة بيئتهم الروحية بقوله: "ونحن نعبر الزمان في تغيرات المكان.. جماعة صغيرة تحاول أن تشقّ طريقها بأسفار المكان وأسفار الزمان بالرحلات الأرضية أو رحلات الروح". وهذه الأسفار نمرّ بها أو نعيش أجواءها الخاصة والعامة ـ بعبورنا الحقل الروائي هنا ـ من مبدئه الى منتهاه، إذ هي رتبت على أساس منطقي يبني النتيجة على السبب بإشارات ومصطلحات عرفانية أراد من خلالها حمادة تأكيد أن الفلسفة الإلهية هي الوجه الآخر للدين، تتطابق معه في وحدة جوهرية مطلقة، وذلك عبر معرفة كلامية محضة، سرداً وحواراً وتأملات لجماعة متعمقة في علم الرياضة الروحية، فحققت ذواتها في الواقع من خلال حكمتها العملية، وليس من خلال حكمتها النظرية.. "وأمرهم شورى بينهم".‏

"مشهد البحر" تروي إذاً قصة بداية تشكل وصعود نجم تيار سياسي وطني (لبناني) مستقل ومحايد، وبرغم انبثاقه من رحم الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن أعضاءه أبَوا الدخول في معمعاتها على قاعدة خروجهم ومحاولاتهم الحثيثة لإخراج جميع أطرافها من أتونها الجحيمي والعبثي، بهدف الاستعداد والتفرّغ للدخول في الحرب الأساسية المتمثلة بمواجهة العدو الصهيوني (العدو الأول والأخير) المحتل لفلسطين قبلاً، ولاحقاً لجزء كبير حيوي وأساسي من الوطن اللبناني المتاخم لها.‏

ويوضح الراوي: "لقد غلبنا في اختيارنا السياسي التوجه جنوباً لمقاومة العدو الحقيقي بدل الدخول في الحرب الأهلية ودهاليزها السوداء" (ص103).‏

وفي مناجاته مع نفسه يتساءل هذا "العاشق" (بالمعنى الصوفي لهذه الكلمة): "كيف تجتمع في قعر مرآةٍ مصقولة صورة الحب وصورة الحرب!".. لذا نعرف من هذا السؤال لماذا ارتأت هذه الدراسة الفلسفية معالجة مسألة "الجبر والاختيار" (الانسانيين) أو "القضاء والقدر" (الإلهيين) من منظور فلسفي خاص بنظام منطقها الذي يتنازعه مفهومان أساسيان للوجود الانساني: مفهوم الحب الذي هو اختيار حر، أي طبيعي لدى الكائن البشري، ومفهوم الحرب التي يدخلها الانسان مضطراً ومرغماً، يدفعه الى ذلك أسباب كثيرة، ربما تكون مقنعة لصاحبها وربما لا تكون.‏

ينهض معمار "مشهد البحر" روائياً على دعائم تقنية "تيار الوعي أو المونولوج الداخلي"، أي المناجاة الذاتية للراوي والشخصيات، اضافة الى اعتماده ـ في جزء أساسي منه ـ على "الديالوغ" (حوار الشخصيات في ما بينها)، ويفصل حيناً ويجمع حيناً آخر هذا وذاك، سرد متقطع لا يخلو من الوصف "المعنوي" في تصوير العواطف.‏

لذا لا غرو أن تخلو هذه الرواية من الحوادث المرئية (المتحركة)، بل هي منسوجة بالأفكار والذكريات التي تعبّر عن الجوهر الخاص للحياة العقلية الباطنية للشخصيات الروائية التي تحوّلت ـ هنا ـ الى مجرّد أصوات تقدم لنا تصوراتها وآراءها وانفعالاتها (الروحية) وانشغالاتها القلبية عبر الصور الذهنية وأحلام اليقظة، في مجالسها الحوارية التي هي أشبه بمناظرات فكرية (منطقية) محضة، تجري في أمكنة هي عبارة عن مقاهٍ وما يشبهها، ترمز لـ"الخانقاهات"، أي مساكن الدراويش، تلك التي يجتمع فيها أهل العرفان للتصوف والعبادة لبلوغ عين اليقين (المشاهدة القلبية للحق تعالى). كذلك فإن الزمان هنا زمان موقّت انتظاراً لظهور "إمام الزمان" حجة الله على الأرض، لتخليصها من الشرور والآثام والخطايا الدنيوية.‏

في نصّ ملحمي متكامل العناصر البنيوية مَاسَكَتْهُ "قطبة مخفية"، يحمل من "الأشواق" الجمّة لشخصياتها "العاشقة" المنجذبة الى مدارات عشقها المعنوي تظللها كل أنواع وأطياف اللقاء والوداع، فكل عاشق منجذب الى مدار عشقه "على قدر احتمال أشواقه.. كما الليل مع وردته أو الفراش مع مصباحه"، (في الخيال والواقع) محلقاً بتأملاته العميقة في أجواء أسفارٍ تتشاسع فضاءاتها وتتغوّر كاتساع وعمق فضاءات وأغوار البحر، محاولاً تنظيم ودوزنة إيقاع حياته المتحركة ـ قسراً ـ بحصاره بين الفعل العقلاني (الحب)، وهو هنا "الحب الأعلى"، والفعل اللاعقلاني (الحرب).‏

هذا الواقع المتحرك شكّل قيمة "نابضة" بالحياة للكاتب الذي يظهر أحوال وحالات وأوقات ومقامات ومنازل تلك الجماعة التي يرمز اليها ويرصد طرائق سيرها وسلوكها العرفانيين.‏

كانت الحرب الأهلية في ذروتها عندما حاول هذا التيار المقاوم الذي يتحدر أعضاؤه جميعهم من أصول ريفية، صناعة مشهده الخاص.‏

"مشهد البحر" ـ والمقصود بهذا العنوان موج الحياة الصاخب والمضطرب ـ إذ برغم أنهم تتقاذفهم أعماق لجج هذا الموج العاتي، كانوا لا يحتاجون الى من يدلهم على حسن الاختيار، وكانوا يخوضون حربهم الأصلية حيث يجب خوضها، أي في مكانها الصحيح والضروري، في عمق أرضهم المحتلة، ما حوّل ساحة جهادهم شاهداً عينياً على فعلهم الجسور، فـ"كان هذا الوادي من مجرى الليطاني الى مجرى العاصي شاهداً حياً على صلابة الرجال" (ص68). فرجال هذا التيار المقاوم الذي كان أحد رموزهم (قادتهم) سعيد (الشخصية المحورية الثانية في الرواية)، اختار الحب ورفض الحرب الداخلية، ولكن بما أن نظيره "الروائي" لم يستطع إقناعه بالسفر الموقت بعيداً عن ساحة الحرب الأهلية العبثية للراحة والاستجمام، فقد سافر الراوي ليعود ويكتشف أن صديقه الذي اعتمد عليه في ادارة شؤون التنظيم في غيابه، قد استشهد بفعل قذيفة حملها اليه البحر "مصدر العشق ومصدر الموت معاً"، فسقط على أبواب مدينة بيروت مع كوكبة من أصحابه (رفاقه)، فهو الذي اختار الحب بكل جوارحه، لكن القدر بحكمته واقتداره الإلهيين كان له قضاؤه الحتمي المبرم الذي لا مفرّ منه، فأتى استشهاده في غير مكان اختياره الذي كان يودّ الاستشهاد فيه، في ساحة الجنوب، ساحة الجهاد المقدس الحقيقية. وكان ذلك لغزاً محكماً لا يفك رموزه الا القدر نفسه (صاحب الفعل)، فـ"الانسان خلق لمواجهة الموت، والأقدار مسجلة في سجل المشيئة، فلا رادّ لها، والانسان وفعله من صنع المشيئة الإلهية" (ص158).‏

هذه هي رسالة "مشهد البحر" التي تنبئنا بأن "الشهيد السعيد" ترك سرّه لصاحبه (الراوي)، هذا الذي كان ينجذب اليه روحياً انجذاب "المُريد" الى "شيخه".. لذا فقد عقد المريد العزم على تكملة مسيرة شيخه الأثير "امتثالاً لنطق البصيرة المؤيدة بالمدد الإلهي، البصيرة النافذة الى رؤية الحقيقة بميزان الإمامة والعدل، الميزان الذي يختلف عن كل الموازين"، فهو من المؤمنين بالزمن المنقطع الذي يتحول دائرياً، فتكون فيه البداية هي عين النهاية، ويكون فيه المبدأ هو المعاد، أي عود كل عاشق الى أصله.. و"لأن البداية عشقية والنهاية عشقية، فما بينهما ليس سوى العشق، ليس سوى العشق"(ص16).‏

وهذا لأننا نعيش في زمن الانتظار، انتظار ظهور "امام الزمان" (حجة الله على الأرض التي لا تخلو من حجة أبداً)، ولأنه هو وحده مركز الدائرة، ولأننا جميعاً محيط الدائرة، اذاً فنحن من جنوده المخلصين.‏

"مشهد البحر" هي رواية مدارات العشاق، عشاق الحياة و"الشهادة معاً"، تلك الحياة التي تفرض عليهم الاستشهاد في سبيل قيم عليا ترتقي الى ذرى القداسة، فمعطيات نهايتها الدرامية تظهر لنا حل معضلة المسألة الكونية، و"نحن نختار الحب، فيما الحرب كُتبت علينا وهي كره لنا" (ص27).. وهذا هو مضمون ما أُثر عن الأئمة الأطهار رموز عقيدة هذا التيار المقاوم، بأنه "لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين".‏

أحمد ياسين‏

2006-10-30