ارشيف من : 2005-2008

الإسراء والمعراج: رحلة النبي الأعظم (ص) بالروح والجسد الى سدرة المنتهى

الإسراء والمعراج: رحلة النبي الأعظم (ص) بالروح والجسد الى سدرة المنتهى

الانتقاد/ مناسبات ـ العدد 1125 ـ 2 أيلول/ سبتمبر 2005‏

تتفاوت المعرفة بعالم الغيب والشهادة وتختلف بين بني البشر، فحال عالم الغيب بالنسبة للانسان العادي ليس هو نفسه بالنسبة الى الانبياء والمرسلين الذين أطلعهم الله تعالى على الكثير من أسرار الكون العميقة وخفايا الأمور، وأعطاهم بعض المقدرات والمعجزات التي لم يستطع العقل البشري إدراكها واستيعابها، وفي بعض الأحيان عدم الإذعان لها ورفضها.‏

وحادثة الإسراء والمعراج التي استفاض القرآن الكريم والروايات الشريفة في الحديث عنها تدخل في نطاق القضايا الغيبية والاعجازية التي جرت لخاتم الانبياء والمرسلين محمد (ص) بما حصل فيها من انتقال له من مكة الى المسجد الأقصى، ومن ثمّ العروج الى السماوات العلى، واطلاعه على أحوال الماضين من الأنبياء، وتعرّفه الى الحوادث المستقبلية وغيرها من المسائل التي لم ينكرها البشر في ذلك العصر لأن النبي (ص) قدّم الأدلة والبراهين الكافية والواضحة على حصول هذه الرحلة الفضائية.‏

ومن هنا كانت هذه المسألة من المسلّمات في العقيدة الاسلامية التي لم يختلف عليها علماء الاسلام، وان ناقشوا في بعض تفاصيلها، لأن الايمان بها تكذيب للقرآن وللنبي الأكرم (ص).‏

عن الامام الصادق (ع) أنه قال: "ليس من شيعتنا من أنكر أربعة: المعراج والمساءلة في القبر، وخلق الجنة والنار، والشفاعة"(1).‏

وعن الامام الرضا (ع) قال: "من كذّب بالمعراج فقد كذّب رسول الله(ص)(2).‏

وتحدثت سورة الإسراء عن اسراء النبي (ص)، أي سفره ليلاً من المسجد الحرام من مكة المكرمة الى المسجد الأقصى (في القدس الشريف)، وقد كان هذا السفر "الإسراء" مقدمة لمعراجه(ص) الى السماء، وقد لوحظ في هذا السفر انه تمّ في زمن قياسي حيث أنه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة الى وسائل نقل ذلك الزمن، ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.‏

أما الاشارة الى المعراج فكانت في سورة "النجم" التي تحدثت عنه في ست آيات هي: "ولقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى* عندها جنة المأوى* اذ يغشى السدرة ما يغشى* ما زاغ البصر وما طغى* لقد رأى من آيات ربه الكبرى" (3).‏

واستناداً الى أقوال المفسّرين فإن هذه الآيات تفيد بأن الإسراء والمعراج تمّا في حالة اليقظة، وان قوله تعالى: "ما زاغ البصر وما طغى" هو إثبات آخر لصحة هذا القول، اما الحكمة والهدف من ذلك فإنها غايات متعددة يجمعها أصل واحد، وهو ان الهدف من هذا السفر الاعجازي بحسب النص القرآني: "لنريه من آياتنا"؟ وأن يشاهد رسول الله (ص) آيات العظمة الالهية، وقد استمر سفر الإسراء الى المعراج صعوداً في السماوات لتحقيق هذا الغرض، وهو أن تمتلئ روح رسول الله (ص) أكثر بدلائل العظمة الربانية، وآيات الله في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً اضافياً يوظفه (ص) في هداية الناس الى ربّ السماوات والأرض.‏

وكما يقول بعض المفسرين: وبذلك فإن سفر رسول الله (ص) في رحلة الإسراء والمعراج لم يكن ـ كما يتصوّر البعض ذلك ـ بهدف رؤية الله تبارك وتعالى ظناً منهم أنه تعالى يشغل مكاناً في السماوات!!!‏

وبالرغم من أن رسول الله (ص) كان عارفاً بعظمة الله سبحانه، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه، ولكن "متى كان السماع كالرؤية؟!"(4).‏

وهذا الهدف العظيم للمعراج النبوي لا يمكن ان ينسجم مع ما يقوله البعض من ان المعراج كان روحانياً أي بالروح لا بالجسد.‏

فقالوا: ان روح النبي (ص) هي التي طافت في تلك العوالم ثم عادت الى جسد النبي (ص) مرة أخرى!!‏

وذهب جماعة الى ابعد من ذلك اذ ادعوا بأن جميع هذه المشاهدات والقضايا تمت لرسول الله (ص) في عالم الرؤيا، فكل ما رآه النبي (ص) أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كان رؤيا، ورؤيا الأنبياء صادقة!!‏

فمقصودهم في المعراج الروحاني لرسول الله (ص) هو التدبر في مخلوقات الله ومصنوعاته ومشاهدة جلاله وجماله، والتفكر في ذات الحق تعالى، وبالتالي التخلص من القيود والأغلال المادية والعلائق الدنيوية.‏

وبطبيعة الحال لا يمكن القبول بهذا الرأي، وان كان البعض استند الى قول بعض احدى زوجات النبي (ص) التي تزوج بها الرسول (ص) بعد الهجرة، والاتفاق قائم على ان الإسراء والمعراج كانا قبل الهجرة مع الاختلاف في سنته ـ وانها قالت: "ما فقدت جسد رسول الله (ص) ليلة الإسراء".‏

فالإسراء والمعراج وفقاً لمعتقدات الكثير من المذاهب الاسلامية كانا بجسد النبي (ص) وروحه، لذا يقول العلامة المجلسي: "اعلم ان عروجه (ص) الى بيت المقدس ثم الى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف، مما دلت عليه الآيات والأخبار المتواترة في طرق الخاصة والعامة، وإنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ: إما من قلة التتبع في آثار الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) أو من قلة التدين وضعف اليقين، او الانخداع بتسويلات المتفلسفين والأخبار الواردة في هذا المطلب لا أظن ورد مثلها في أصول المذهب" (5).‏

وهذا هو الرأي الصحيح، ولنا على ذلك جملة من الأدلة منها:‏

أولاً: اذا كان المراد في المعراج الروحاني هو التفكر في عظمة الحق وسعة الخلق و... فلا شك ان هذا ليس من مختصات رسول الاسلام (ص)، بل كان أكثر الأنبياء، وكثير من الأوليات من ذوي البصائر القوية والطاهرة يمتلكون هذه المرتبة، على حين ان القرآن الكريم يعتبر (المعراج) من خصائص رسول الله (ص) ويذكره على أنه نوع من الامتياز الخاص به (ص).‏

ثانياً: قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده..." وقوله تعالى: "فأوحى الى عبده ما أوحى". فإن قوله كلمة "عبده" تطلق على الروح والجسد معاً، ولو كان مناماً، لكان قال: بروح عبده، والى روح عبده.‏

ثالثاً: قوله تعالى :"ما زاغ البصر وما طغى.." فإن المقصود من الرؤية البصرية هنا هو اطلاقها على رؤية الجسد دون رؤية الروح فقط فيقال لها بصيرة، وهي ظاهرة في ذلك.‏

رابعاً: انه لو كان الإسراء أو المعراج رؤيا صالحة، فلا يبقى فيه اعجاز، ولما أنكره المشركون والمعاندون.‏

خامساً: انه لو كان مجرد رؤيا لم يخرج أبو طالب والهاشميون في طلبه (ص) حيث أشارت الروايات الى أنهم افتقدوه في تلك الليلة، فلو كان المعراج بالروح لما افتقدوه.‏

سادساً: ان الروايات ذكرت ان معراجه (ص) كان بالبراق، فلو كان المعراج بالروح لما احتاج الى البراق.‏

سابعاً: ان الغاية الأسمى للمعراج لا يمكن ان تتحقق الا من خلال عروجه وصعوده (ص) الى السماء بجسده وروحه.‏

يقول ثابت بن دينار سألت الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان فقال(ع): تعالى الله عن ذلك.‏

قلت: فلِمَ أسرى بنبيه محمد (ص) الى السماء؟‏

فقال (ع): ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. وقال يونس بن عبد الرحمن قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر(ع) لأي علة عرج الله بنبيه الى السماء ومنها الى سدرة المنتهى، ومنها الى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان؟‏

فقال (ع): ان الله لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان، ولكنه عز وجل أراد ان يشرف به ملائكته، وسكان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبهون سبحان اللهو تعالى عما يصفون (6).‏

فهذه الأبعاد والغايات التي ذكرتها هذه الروايات وغيرها تشير بوضوح الى أن الله سبحانه وتعالى أراد لنبيه الأعظم محمد (ص) ان يحلق بجسده الطاهر في ملكوت السماوات ويرى عجائب وبدائع خلقه سبحانه وتعالى، أو كما ذكرت الرواية ان تتشرف الملائكة بحضوره بشخصه وجسده الطاهر.‏

يبقى ان نقول بأن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه (ص) كان جسمانياً، ومن اعترض أو أنكر قبول هذه الحقيقة ارتكب التأويلات، وزعم بأن معراج النبي (ص) كان روحانياً اي بالروح لا بالجسم.‏

وقد يكون سبب الانكار للمعراج الجسدي هو اما لعدم القدرة على تعقل ذلك او لأجل الحط من كرامة النبي (ص) كما قال بعض المحققين، لأن اكرام الله تعالى لرسوله (ص) بمعجزة الإسراء والمعراج لم يكن أمراً عفوياً عابراً، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدى (ص) وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها الله ويحيط بها.‏

فلم يكن الإسراء وكذلك المعراج امراً عبثياً، كانا من معجزات الله تعالى لنبيه الأكرم (ص) ليشاهد أسرار العظمة الالهية في أرجاء عالم الوجود لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته، وتتغذى بها روحه الكريمة، وتحصل على نظرة وادراك جديدين لهداية البشر وقيادتهم، وليبقى الرسول الأعظم (ص) بما رأى وشاهد فضلاً عما تتحلى به روحه الطاهرة الفرد الأكمل والأعلى الذي رأى ما لم يره كل البشر، واطلع على الحقائق وأسرارها بما لم يصل اليه احد من البشر، وما من شك بأن قدرة الله تعالى تمتد الى هذا الجسد المبارك لرسول الله (ص) لتأخذ به الى عالم الملكوت الأعلى، فلا يمكن أن يكون المعراج الا بالروح والجسد.‏

الشيخ خليل رزق‏

هوامش:‏

1 - المجلسي، بحار الأنوار ج 18 ص321.‏

2 - م.ن ص 312.‏

3 - سورة النجم الآيات 13 ـ 18.‏

4 - الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب المنزل ج 8، ص 286.‏

5 - بحار الأنوار ج 18، ص 289.‏

6 - الصدوق، علل الشرائع ص 55.‏

2006-10-30