ارشيف من : 2005-2008

حجر الصوّان

حجر الصوّان

الانتقاد/قصة قصيرة ـ العدد 1122 ـ 12 آب/أغسطس 2005‏

عندما انتهت مسرحية الحرب في فلسطين عام 1948، وأصبحت قرى الجليل خالية من سكانها... أخذت عصابات "الهاغاناه" المجرمة.. تشن غارات انتقامية عبر الحدود.. وترتكب المجازر بحق سكان القرى اللبنانية المحاذية لفلسطين..‏

وسادت المنطقة حالة رعبٍ شبه دائمة.. الى أن أصبح الأمر واقعاً، ومع الأيام عاد الهدوء تدريجياً الى المنطقة.. وعاد سكان هذه القرى الى ممارسة أعمالهم اليومية.. وحياتهم العادية.. بأفراحها وأتراحها..‏

وأذكر يا ولدي بألم حاد عصر يوم غير عادي في حياة أسرتي الجنوبية.. كان جدّك يجلس في زاوية الدار.. محدقاً.. ساهماً.. وكأنه غائب عن الوعي.. وجدتكَ تجلس في زاوية أخرى.. ويدها على خدها... تحادث نفسها.. وأنا أحاول جاهداً قراءة قصاصات ورق ممزقة، وأختي غافلة عن الجميع.. تعيش وضعاً نفسياً معقداً.‏

تأملت وجه أمي.. وجدته حزيناً كئيباً.. سألتها بمرارة.. ماذا حل بك؟ فأجابت جدتك هامسة كي لا يسمع جدك: ألا تسمع الزغاريد وصوت المجوز في ساحة القرية.. نعم يا أمي.. أسمعها جيداً..وأرى أيضاً.. دموعك تغطي وجهك.. ولكن دون جدوى.. وأعتقد أن هذا "العرس" الذي يقام الان في الساحة.. هو بداية هل المشكلة وخاتمة الأحزان كما يقال... برغم أنه لا وجود لميتٍ في دارنا..‏

كلامك يا ولدي أكبر من سنك وهذا يسعدني... ولكن.. "يا حسرة على خيك في بيروت.. شو بدو يعمل.. بس يعرف.. مقصوفة العمر تجوزت...".‏

"يا أمي بسيطة مع الوقت رح ينساها يا ريت يا ابني خيك بعرفه.. تعلق فيها كثير.. شوف بيك.. العرس قايم قاعد بالساحة وهوي الله يسامحه ما فارقه معو..".‏

معه حق.. ما قادر يعمل شي.. البنت غنية.. وأهلها فوق.. فوق.. واحنا.. زواجها من اخي كان مستحيل"..‏

بعد هذا الحوار... أحسست أنا أيضاً... بهزة عنيفة تعبث بكياني.. وحزن رهيب بشأن أخي يتفجر في داخلي... وبرغبة حادة في البكاء... كل هذا حدث عندما تراءى أمام ناظري وجه اخي الشاب الطيب البريء الخجول..‏

كان أخي يعمل في فلسطين ويعيل الأسرة قدر استطاعته.. ولكن فلسطين ضاعت، سقطت ضحية براثن شذاذ الآفاق..‏

وانتقل أخي من "حيفا" الى بيروت، بعد اقامة قصيرة في القرية، ما لبث الفقر ان دفعه دفعاً... وبقسوة نحو بيروت للبحث عن عمل... ولكن بعد أن وقع لسوء حظه في حب أجمل وأغنى فتاة في القرية.. لكن مع الأسف من جانب واحد... كان جدك اذا تكلم في الموضوع.. تكلم بتهكم.. وأثبت أنه يجيد فن السخرية جيداً... كنت أتأمل افراد اسرتي فرداً.. فرداً.. فأحس بكآبة ومرارة... دون أن يكون في مقدوري ولصغر سني.. أن أفعل شيئاً من أجلهم.. أبي ضعيف مستسلم لواقعه السيئ رافع راية بيضاء، أمي شبه عاجزة... لا تملك سوى الدموع وينبوع حنانٍ نرتوي منه جميعاً، أختي معتوهة لا تجيد سوى الضحك المتقطع ولا تدرك شيئاً، أما أنا يا ولدي فقد كنت أعاني من حالة نضوج مبكر، وأشعر أني كبير العائلة لا صغيرها... كذلك الوحيد وسط الأسرة الذي يجيد القراءة والكتابة... وجاء موسم الحصاد الأول بعد نكبة فلسطين..‏

وغادر جدك يا ولدي... البيت مع شروق الشمس.. متجهاً نحو قطعة أرض يملكها ملاصقة للحدود مع فلسطين... لجمع محصولها المتواضع... وقد اصطحبني معه.. نزولاً عند رغبتي الملحة... بعد ساعات طوال من العمل.. أوشك على الانتهاء من عملية الحصاد... أما أنا فكنت أجمع بقايا سنابل تسقط خلفه.. سعيداً بعملي هذا.. برغم أن جوعاً ملعوناً أخذ يلسع معدتي.. لم تنفع معه شيئاً... حبات "تين" مجفف.. فجأة.. توقفت في المكان... ناقلة جندٍ عسكرية... ترجل منها ضابطان يرتديان ثياباً بيضاء... عرفهما جدك بأنهما من مراقبي الهدنة المشؤومة..‏

وبقي أفراد مجموعةٍ من عصابات شذاذ الآفاق يقفون، مدججين بالسلاح تعلو وجوههم رغبة في القتل.. وأنزل آخرون اسلاكاً شائكة ثم تقدم أحد الضباط من جدك الذي رفع ظهره... متوقفاً عن العمل... مستفسراً .. ماذا حدث؟ وتسرب الى سمعه صوت يتكلم العربية بصعوبة.. أسرع يا رجل.. هيا.. اجمع حصادك وانقله بعيداً... ارضك هذه اصبحت جزءاً من ارض اسرائيل.. ولكنها أرض لبنانية كذلك فلسطين أرض عربية، ويجيب المراقب الدولي.. بقسوة حادة أرضك كانت لبنانية وفلسطين كانت عربية كل شيء أصبح في خبر كان، أصواتكم لم ولن تكون مسموعة..‏

لقد خسرتم الحرب هيا هذا قرار ترسيم حدود صادر عن هيئة الامم، مفهوم. وجمع جدك المقهور المظلوم حصاده مرغماً عند غروب ذلك اليوم الأسود وعرق الصيف الحار يتصبب من جبينه غضباً وقد خسر الأرض التي طالما أعطاها من جهده وعرقه الشيء الكثير..‏

ثم وقف صامتاً امام كومة قش كبيرة وقرى الجليل داخل فلسطين تتراءى امام ناظره، وكأنها تصرخ أنقذوني، ومراقبون دوليون يثبتون شريطاً شائكاً على حدود فلسطين، التي قدمها الحكام العرب بضعفهم ومجونهم وخيانتهم هدية مجانية للصهيونية العالمية بعد أن شُرد شعبها ظلماً وعدواناً، وارتكبت بحقه أبشع انواع الجرائم..‏

مرت لحظات وجدك يقف مذهولاً.. في حيرة من أمره لا يدري ماذا يفعل، وقد تسمرت قدماه في الأرض كأنه تحول الى قطعة من جماد، فجأة وبلا تردد أخرج من جيبه علبة ثقاب وأضرم النار في حصاده... فارتفعت ألسنة اللهب والغضب عالياً... وغطت سماء المنطقة طبقة كثيفة من الدخان الأسود لتكتمل صورة المأساة ومعمودية الأرض بنار محصولها الذي كان من المنتظر ان يتحول خبزاً .. يطعم افواهاً جائعة، ثم غادر المكان رافعاً منجله في وجوههم صارخاً انتظروا أيها الأوغاد أحفادي قادمون اليكم يوماً..‏

حدث كل هذا يا ولدي... وأنا اقف مذعوراً.. ارتجف حقداً.. في قبضتي حجر من صوّان ما لبثت أن قذفت به بكل ما أوتيت من قوة باتجاههم وانطلقت مسرعاً خلف جدك خائفاً.. هل نسيتني يا أبي.. هل نسيتني.. ودموع حارة تتساقط فوق وجهي، وقد غطت طبقة من تراب الأرض التي وقعت في الأسر.. ومن رماد حريق محصولها..‏

توقف أبي وضمني الى صدرة قائلاً أنا انساك يا ولدي، ظننتك تسير خلفي، سنعود اليهم ولا وقت لليأس بعد الآن...‏

ثم أمسك بيدي وتابعنا سيرنا نحو القرية، في الطريق كنت أحدق في وجه أبي وأتأمل قسماته ولا أشبع، فأحس أن أبي لم يعد ضعيفاً، وأنا لم أعد صغيراً والراية البيضاء احترقت في نار الهشيم.‏

صبحي مصطفى أيوب‏

2006-10-30