ارشيف من : 2005-2008
الحاجات الإنسانية بين علم النفس الغربي والقرآني لـ حجة الإسلام والمسلمين الدكتور جواد اجهادي(*)
العدد 1117 ـ 8 تموز/يوليو 2005
طهران: أميمة محسن عليق
لقد أولى علم النفس أهمية كبيرة للحاجات النفسية للإنسان. وإضافة الى الحاجات الفيزيولوجية ذكر القرآن الكريم وركز على الحاجات النفسية. ومن المفيد أن نؤكد أن القرآن الكريم قد ذكر بشكل مفصل صفات الإنسان السلبية التي تؤثر على تكامله، وقد رد القرآن هذه الصفات الى الأسباب الوراثية حيناً وإلى التربوية أحياناً.. لذلك نستخلص أن القرآن يعتبر الإنسان إنساناً ويدلنا على ما يجب أن يكون عليه هذا المخلوق.
أما بالنسبة الى علم النفس الحديث، فإن مورى (1998 ـ 1893) يعتبر أن الحاجات الأساسية هي التي تحافظ على وجود الإنسان، لأننا اذا نظرنا الى النتيجة التي يصل اليها الإنسان بعد تلبية هذه الحاجات من التوازن الحياتي والمحافظة على هذا التوازن، نستطيع أن نفهم أهمية تلبية هذه الحاجات. ينطلق مورى من الحاجات الأساسية للبقاء: (الطعام، الشراب، الهواء، الفرار من الخطر، الميل الجنسي...)، لكنه يؤكد أيضاً أن الإنسان لا يقنع فقط بتلبية هذه الحاجات، فالحياة بتقلباتها وتطورها تؤدي الى نشوء حاجات لها طابع نفسي، وهذه الحاجات: ألف: النتيجة المباشرة لحالة داخلية أو لعوامل خارجية، ب: يصاحبها دائماً حالة انفعالية وعاطفية، جـ: لها شدة وضعف، د: دائمة أو مؤقتة:
كذلك المجتمع وما يطرأ عليه من قيم جديدة في المجال الديني والأخلاقي والسياسي، يجعل الإنسان في مواجهة حاجات جديدة: الحاجة للتغلب على الآخرين، اكتساب الشهرة والمقام، مساعدة المحتاجين، الحاجة لإدراك الحقيقة، العبادة، التعلق والحب.
وهذه الحاجات أطلق عليها موري اسم "الحاجات الثانوية"، وهذه الكلمة الثانوية لا تدل أبداً على قلة أهمية هذه الحاجات، بل هي ثانوية لأنها تأتي وتبرز بعد أن يكون الحاجات الأساسية قد أُشبعت.. (شولتز وشولتز 1998).
أما هورناي (1952 - 1885) فتؤكد بدورها القوى الاجتماعية المؤثرة على نمو الطفل، وتعتقد أن الحاجتين الأساسيتين في مرحلة الطفولة هما "الأمن" و"الإشباع"، لأن لهما أهمية كبيرة في تشكل شخصية الطفل. وبنظر هورناي فإن إرضاء الحاجة الفيزيولوجية من طعام وشراب ليست بأهمية الحاجة للأمن عند الطفل، والأمن هو فقدان الخوف والقلق. وقد وضعت هورناي لائحة بـ15 حاجات أساسية أطلقت عليها اسم "الحاجات المؤذية"، أي انها طريقة غير منطقية وغير معقولة لحل المشكلات الفردية. هذه الحاجات العشر أدرجتها هورناي تحت ثلاثة عناوين: 1 ـ التحرك نحو الناس، وهي الشخصية المطيعة (المحبة، التصديق، الحماية). 2 ـ التحرك ضد الناس، الشخصية العدوانية (الاستفادة من الآخرين، الاهتمام بالحيثية والمقام، انتظار المديح). 3ـ التحرك بعيداً عن الناس، الشخصية المنزوية (الحياة المحدودة، تقبل الذات، عدم قبول النقد).
وبنظر هورناي فالإنسان الذي يعاني من مشاكل نفسية تتجلى فيه واحدة من هذه الشخصيات. من جهة ثانية لا يستطيع الإنسان ان يشبع هذه الحاجات بشكل كلي، خاصة اذا كانت تتعارض في ما بينها. وتلفت الى ان الأشخاص (الأصحاء) هم من يستطيعون أن يلفقوا بين هذه الحاجات.. وحتى لو لم يستطيعوا إشباعها نهائياً، فهم يحاولون أن يقللوا من شدتها (شولتز 1977). مازلو (1908 ـ 1970): صاحب المذهب الإنساني في علم النفس ومن المنتقدين بشدة للمذهب السلوكي والتحليلي، وخاصة طريقة فرويد ونظرته الى الشخصية الإنسانية. يعتقد مازلو أن دراسة النماذج المريضة وغير السوية وتعميمها على البشر يؤدي بنا الى علم نفسٍ مريض ومعاق (مازلو 1970). ومن وجهة نظر مازلو حتى لو درسنا النماذج المبدعة والخلاّقة والسليمة، نكون أيضاً مقصرين في نظرتنا للإنسان. فالإنسان هو واحد وكل متكامل، لذا علينا ان ندرس ونبحث في شخصيات مميزة تحولت قابلياتهم من القوة الى الفعل. فمازلو يؤكد أن الإنسان في فطرته طاهر وجيد وسليم، وما يحوله الى كائنٍ مريض أو سيىء هو المحيط أو المجتمع الذي يعيش فيه.
في إطلالتنا على الحاجات من وجهة نظر مازلو، نؤكد عدة نقاط:
أ: في البلدان الغربية المرفهة بعض الشيء وفي البلدان الصناعية، لا يوجد قلق لتأمين الحاجات الأساسية للبقاء، وخاصة عند الطبقة الوسطى والمرفهة. لذلك نرى أن الحاجات الفيزيولوجية لا تلعب دوراً مهماً في التأثير على حياة الناس هناك.
ب: إشباع الحاجة الى الأمن يحتاج الى مداومة في عدم الخوف والتخلص من الاضطراب. فالأفراد الذين لا يشعرون بالأمن يحتاجون الى تنظيم حياتهم أكثر. هؤلاء الأفراد وبطريقة وسواسية يخافون من التجارب الجديدة غير المنتظرة ويتقونها. فالأمن في العمل وترك الهرج والمرج من الحاجات الأساسية للأفراد.
جـ: إشباع الحاجة الى التعلق بالآخرين صار من الأمور الصعبة في المجتمعات الصناعية وفي المدن الكبرى. إشباع الحاجة الى الاحترام ـ أكان احترام الغير أم احترام النفس ـ صار أيضاً من الأمور الصعبة في يومنا هذا.
د: في تسلسل الحاجات عند مازلو، يؤكد ان الإنسان الذي يترك أمواله وحياته المادية من أجل معتقداته يكون قد تخطى الحاجة الفيزيولوجية وارتفع فوقها حتى يتكامل للوصول الى أهدافٍ أهم بكثير. وهذا الموضوع يميز نظرية مازلو عن النظريات الأخرى (مازلو 1968 ـ 1970).
القرآن والحاجات:
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه في متابعة هذا البحث: ما هي الحاجات الأهم التي تعرّض لها القرآن الكريم؟
أهم الحاجات التي طرحها القرآن الكريم، الحاجات الفيزيولوجية والحاجة الى الأمن.
ـ فقد ذكر القرآن الكريم الحاجة الى إشباع الجوع (قريش، الآية 4).
ـ كما ذكر القرآن الكريم الحاجة الى إشباع النوم (الآية 47 من سورة الفرقان، الآية 9 من سورة النبأ، الآية 23 من سورة الروم). والنوم من الحاجات المهمة التي تجلب الراحة والسكينة خاصة في الليل.
لكن اذا ما لاحظنا ان القرآن الكريم شدّد على الجوع في سورة قريش وفي سور أخرى، مع تأكيده أن إشباع هذه الحاجة هي من أهم الحاجات الإنسانية. وكذلك الأمن، "فالإنسان بحاجة الى الأمن ويهرب من الخوف والاضطراب".
وفي آياتٍ أخرى ذكرت الحاجة الى الأمن على أنها أهم الحاجات، (سورة البقرة الآية 126، 155)، و(سورة إبراهيم الآية 35)، و(سورة النساء الآية 83).
ولا يخفى على أحدٍ أهمية الترتيب الذي يأتي في القرآن الكريم. فحين بنى النبي إبراهيم (ع) الكعبة دعا الله لأن تكون هذه المدينة آمنة، وأهلها موفوري الرزق.
وفي آيات أخرى عندما يذكر بلاء الله: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين" (سورة البقرة الآية 155)، جاءت مفاهيم الخوف ثم الجوع ثم النقص في الأموال والأنفس على التوالي.
وفي الآية 83 من سورة النساء: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه الى الرسول".. هنا المسألة الأساسية هي الأمن، لا نستطيع أن نقيسها هنا بالجوع.
في سورة يونس، الآية 83: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوفٍ من فرعون.. هنا أيضاً ذكر القرآن الكريم الأمن والخوف معاً.
في المدينة الآمنة التي يعيش أهلها بطمأنينة وتؤمن فيها كل الحاجات الأساسية، تأكيد أن من نعم الله على البشر ان يشبع هذه الحاجات الأولية، ونتيجة الكفر يذوق الإنسان طعم الجوع والخوف.
الخوف من الفقر هو من العوامل المهمة التي تدفع بالإنسان لرفع الجوع وتأمين حاجاته الأولية، خاصة أن العرب الجاهليين كانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر..
"ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيراً" (الإسراء 31).. في الآية 49 من سورة البقرة: "وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.. "ودعاء إبراهيم لذريته من بعده، وإثر هذا الدعاء على حياتهم نستطيع أن نستخلص منه بعض الحاجات الأخرى: الحاجة الى الهدوء والسكينة، الحاجة الى الحب، وذلك عبر تأكيد السنخية الواحدة للذكر والأنثى.. وأكد أن الزوج هو سكن للآخر، أما النقطة الأساسية التي عالجها علماء النفس المعاصرون والتي سنشملها في بحثنا هي: مسألة المحبة (love) والتعلق Attachement) وفقدانهما. في نظرية التعلق (Attachement theory) التي هي من أهم نظريات علم النفس المعاصر حيث، تم عولج موضوع التعلق منشؤه والقضاء عليه بشكلٍ مفصّل.
(Bolby 1973 – 1979) وعبر دراسته لنظريات علم النفس التحليلي، التجريبي ، التعليمي، الوراثي والمرضي، استطاع أن يستخلص نظرية التعلق الخاصة به.
أما الحب الذي ذكره القرآن الكريم والذي هو من الحاجات الإنسانية الجميلة، فيختلف في المضمون عن الحب الذي ذكر في نظرية بولبي من ناحية معينة هي: ان الإنسان الذي يضع حب الله فوق جميع اولوياته، تسير حياته دائماً كما يريد هذا المحبوب، أي الله. ويذكر القرآن الكريم الصفات والأعمال التي يحبها الله والتي يريدها الله:
ـ الانفاق: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.." آل عمران92.
ـ العفو: "وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. النور22.
ـ التقوى: "بلى، من أوفى بعهده واتقى، فإن الله يحب المتقين.. (آل عمران 134).
ـ كظم الغيظ "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، آل عمران 134.
ـ الصبر "وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين.. آل عمران 159.
ـ القسط والعدل "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، ان الله يحب المقسطين/ المائدة 42.
ـ الإحسان: "ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين".. المائدة 93.
ـ عدم الإسراف: "كلوا واشربوا ولا تسرفوا.. ان الله لا يحب المسرفين.
ـ حب الله: ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله/آل عمران31.
وهذه التعبئة ليست إجبارية، لكن هذا تعلق راقٍ وحب إلهي..
وفي المقابل: الحب كما ذكر في القرآن، باعث على الابتعاد عن الأعمال المشينة، على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
ـ عدم الاعتداء: "ولا تعتدوا ان الله لا يجب المعتدين"، البقرة190.
ـ عدم الفساد: "يهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد".. البقرة 205.
ـ عدم الظلم: "والله لا يحب الظالمين، آل عمران 57، 190 ـ الشورى".
ـ عدم الإسراف: ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين.. الأعراف 31.
ـ عدم الخيانة: "ان الله لا يحب الخائنين، الأنفال 58.
هذا الحب هو العامل الأساسي الذي يستطيع أن يوصل الإنسان الى الكمال وإلى الجنة التي هي المكان حيث لا جوع ولا خوف ولا ظلم ولا فساد ولا خيانة ولا إسراف.
وحيث الرضا، كل الرضا، وأود أن ألفت أن هذا الرضا هو متبادل: "يا أيها النفس المطمئنة ارجعي الى ربّك راضيةً مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" الفجر (27 ـ 30)، إذن من اختار الحب الحقيقي سيصل الى مرحلة الطمأنينة والكمال، يعود الى الجنة حيث عباد الله جميعاً قد وصلوا الى الراحة النفسية.
والإنسان الكامل من وجهة نظر القرآن، هو الذي اعتمد على هذا الحب الإلهي ليصل الى الكمال الذي هو فيه.
ولا بد من الإشارة الى نظر "اريك مزوم (1980 - 1900) في كتابة الهرب من الحرية 1941 (Escape from freedoom) حيث يؤكد أن الناس كلما كانت حريتهم محدودة أحسوا بالأمان وبالتعلق أكثر فأكثر. ويشير الى أن أعلى مراتب الحب هو حب الحق، المراقبة، المسؤولية، الاحترام، وأيضاً الاعتقاد بأن هذا الحب هو الحق، المراقبة، المسؤولية، الاحترام، وأيضاً الاعتقاد بأن هذا الحب هو ضروري للحياة. وبنظره يجب أن يحاول الإنسان الوصول الى الكمال من أجل حل مشكلاته. وهكذا مثلما يخاف العاشق ان يفقد حبيبه على الأرض، يتحول هذا الخوف الى خوف إلهي، لأنه يخشى ألا يقبل الخالق عمله.. ونحن بدورنا نؤكد أنه اذا ما استطعنا ان نعرف حقيقة هذا الحب، سنعرف عندها أن كل الحاجات الأساسية والثانوية تصبح طي النسيان.. نستطيع أن نرى هذا الحب يتجلى في الاستشهاديين الذين يضحون بكل حاجاتهم وبأرواحهم من أجل إنقاذ أمتهم برغم أن هذا العمل في قاموس البعض هو إرهاب أو جنون.
(*) كاتب وباحث ومن الوجوه الثقافية البارزة في ايران
وأستاذ في علم النفس الاجتماعي في جامعة طهران و"تربيت مدرس"
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018