ارشيف من : 2005-2008
أنصفوا صناع مجد لبنان..
العدد 1117 ـ 8 تموز/ يوليو 2005
خرجت هائماً في أزقة المحلة التي أسكنها من ضواحي ما يدعونها عروس المدائن العربية بيروت، وكنت في هيامي أستعرض وجوه الناس، وأمعن النظر فيها مستقصياً ما وراء ملامحها، وما تحمله هذه الملامح من معاناة تشهد على المآسي الفظيعة التي يعيشونها، في ظل سلطة حرمتهم من أدنى مقومات العيش الكريم، ناهيك عن حرمانهم من حقوقهم المدنية منذ فجر الاستقلال.
هؤلاء المواطنون اللبنانيون الذين تحملوا شظف الحياة ومرارة العيش، وبرغم ذلك ضحوا بكل غالٍ ونفيس من أجل تحرير وطنهم، وقاتلوا بشراسة قلّ نظيرها الاحتلال الصهيوني وحلفاءه وأعوانه، واستطاعوا بصمودهم وتضحياتهم دحره والانتصار على هيمنته ونازيته التي عاثت تقتيلاً وتدميراً لمقومات وجوده كياناً وإنساناً وطاقات وقيماً.
لكن هؤلاء المواطنين الذين صنعوا مجد لبنان الجديد وتبوأوا مراتب الشرف والتضحية، وبرغم شراسة الهجمة وما يتعرضون له من عدوان متعدد الأشكال والألوان والأساليب، بقوا صخرة الصمود دفاعاً عن سيادته وكرامته واستقلاله الذي انتزعوه قهراً من براثن العدو الصهيوني وحلفائه الذين يحاولون اليوم العودة به الى ركاب الذل والهيمنة الإسرائيلية وحلفائها ومخططاتهم الشرق أوسطية التي تريد إخضاع المنطقة بأكملها، ومن خلال الأمم المتحدة وقراراتها التعسفية.
هذه التضحيات الكبيرة والصمود الرائع الذي أنجزه شعبنا، والذي قلب موازين القوى رأساً على عقب، لم تشفع له عند حكامه وسلطاتهم المتعاقبة ولو بقسط زهيد مما يجب له عليهم من حقوق تخفف من معاناتهم وآلامهم وأوجاعهم، وتبلسم بعض جراحهم، وتقيهم شظف الذل والعيش وحرارة القتل والحرام، وتخفيف همومهم لتأمين القوت والملبس لذويهم، والكتاب والدفتر لأطفالهم وأيتامهم وفقرائهم.
واليوم، وهذه الفئات المحرومة من الشعب والوطن على أبواب استحقاقات كبيرة لإنقاذ صموده وإنجازاته الوطنية، لا تستطيع الاستمرار بتضحياتها في الدفاع عنه وحمايته إذا استمر هذا الحرمان ملقياً بثقله عليها بإسقاطاته. فالصمود والاستعداد يلزمه مقومات، ولا تكفي وقفة العز والكبرياء والأنفة للدفاع عما حققته من انتصارات في أقسى ظروف تمر بها منطقتنا وعالمنا العربي والإسلامي، وكأن لسان هذه الانتصارات تقول عن صانيعها:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
عدت أدراجي الى البيت، وأنا أمعن التفكير بهذا الشعب وبصموده وعظمته، وبهذه البلاد وما آلت اليه أوضاعها في ظل طغمة من الحكام والزعماء تعاقبت على الحكم، وكان ديدبها السلب والنهب وسرقة الفقراء وامتصاص دماء هذا الشعب المكافح المناضل لبناء وطن حر مستقل يتمتع فيه أبناؤه بالحرية والكرامة والمساواة.
عدت وفي مخيلتي تتراءى مواكب الشهداء والاستشهاديين ومئات المقابر والنصب رافعة راياتها تخفق في الكرامة.. فقرأت على الأولى شهداء الاستبداد،
وعلى الثانية شهداء الجوع،
وعلى الثالثة شهداء اليأس،
وعلى الرابعة شهداء السياسة،
وعلى الخامسة شهداء الدكتاتورية،
وعلى السادسة شهداء النازية،
وعلى السابعة شهداء الطائفية، وعلى الثامنة شهداء المجد،
وعلى التاسعة شهداء الواجب،
وعلى العاشرة شهداء الحرية،
وعلى الحادية عشرة شهداء الزعامة،
وعلى الثالثة عشرة شهداء العفة والكبرياء،
وعلى الرابعة عشرة شهداء العلم والمعرفة،
وعلى الخامسة عشرة شهداء الوطن،
وعلى السادسة عشرة شهداء السيادة والاستقلال..
ورأيت قتلى علب الليل والخمور والمخدرات والميسر والتشبيح واللصوصية والخيانة والاستزلام والعمالة والاستغلال يملأون الأرجاء.. ورأيت مواكب المؤبنين والقتلة من زعماء وأمراء حرب وحكام، ومن متنافسين على استزلام الناس يرتقون المنابر، ويملأون الدنيا ضجيجاً بخطبهم وأصواتهم الرنانة لاستغلال عواطف الناس وأحزانهم المحافظة على زعاماتهم ومناصبهم وأدوارهم الإجرامية والتخريبية التي يقومون بها خدمة لأسيادهم وساداتهم في هذا الوطن.
أما شهداء الإيمان والوطن والحرية والسيادة والاستقلال ومن معهم من شهداء الجهاد الأكبر، فلا ينالهم من هؤلاء الملقبين بالأسياد سوى الصمت والشتائم واللعنات، لأنهم يريدون لهذا الشعب ولهذا الوطن أن يرقيا الى مقام لائق به وبهم، ودور فاعل بين الشعوب والأمم. فيا لذل هذا الوطن اذا استمر تعاقب القتلة والمجرمين والعملاء على حكمه!
ويا لتعاسة هذا الوطن وأبنائه اذا لم يعرفوا كيف يتخلصون من هذه الزعامات وتسلطها، وتسلط أزلامها على رقاب العباد ومقدرات هذه الشعوب المنكوبة بقياداتها!
نعم، إن الظلم والاضطهاد والمنافسات الاحتكارية واللصوصية والسلب والنهب لمقومات وجود هذا الوطن المسكين المترنح بين الموت والرجاء، جعلت معاناة هؤلاء الضحايا من أهلنا كبيرة وكبيرة جداً، حتى بتنا نسمع أنين أرواحهم وهينمتها تردد الآية الكريمة: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".. وإن الظلم مرتعُه وَخِيْم.
فلك الله يا شعبنا من طغمة ظالميك ومضطهديك، ولشهدائك الأبرار وذويهم الرحمة والتقدير والعرفان.
محمد علي المسمار
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018