ارشيف من : 2005-2008

محطات من الحياة الفكرية للإمام علي بن موسى الرضا(ع)

محطات من الحياة الفكرية للإمام علي بن موسى الرضا(ع)

الانتقاد/ العهد الثقافي ـ العدد 1139ـ 9/12/2005‏

الحديث عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم حديث متشعب وطويل، حيث ان الإحاطة بجميع جوانب تلك الشخصيات والاطلاع على مكونات علومها وسلوكياتها تخرج عن قدرة المحققين والباحثين. غير أن الوقوف على شذرات ولقطات من تلك الشخصيات يساهم قدر المستطاع في التعرف الى بعض جوانبها.‏

وهنا حيث الحديث عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (ع) في ذكرى ولادته، نقف أمام هذه الشخصية العظيمة لنلتمس من معينها إضاءات للفكر والسلوك الإنساني، ونطلع على الشخصية الواقعية للإمام.‏

مما لا شك فيه أن دراسة صفات وأخلاق النبي (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) توضح لنا الصيغة الكاملة للإنسان الكامل، والشخصية التي تشكل القدوة للآخرين بفكرها وحركتها، فحياتهم مدرسة وعبرة وموعظة، وسلوكهم يجسد مبادئ الرسالة، فكان كل واحد من هذه الشخصيات العظيمة يشكل مصدر هداية بالقول والفعل.‏

أما أهم المواصفات والأبعاد التي تجلت في شخصيات الأئمة عليهم السلام، فإضافة لما اختصوا به من تنزه عن الرجس والمعاصي نتيجة ما كانت تحمله شخصياتهم من طهارة ذاتية وكمال على مستوى القوى الباطنية، فكانوا نماذج للزهد والتواضع والإعراض عن كل متاع الدنيا.. والإمام الرضا (ع) برغم كل الأمور والإمكانيات التي كان يمتلكها والمقام الذي كان يشغله والقدرة على الاقتناء والاستمتاع، فقد كان معرضاً عن الدنيا وزخارفها.‏

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما تحلى به الأئمة من آداب وأخلاق جعلهم نماذج حيّة للأشخاص الإلهيين الذين يهدون بالقول والفعل، لا بل ان أعمالهم تحكي عن عظمة شخصياتهم وتترجم ذاك المحتوى. والحديث عن عبادتهم ليس بأقل من ذلك، حيث كان الإخلاص والتسليم المطلق لله تعالى، وكان الشعار الأساس لأعمالهم التي تجلّت فيها آثار ذاك الإخلاص والفناء في الله تعالى.‏

لقد تميزت حياة الإمام الرضا (ع) بجوانب وقضايا مهمة، فهو الذي عاش تلك النهضة الفكرية التي شهدها العالم الإسلامي نتيجة حركة الإمام الصادق (ع) ومدرسته التي خرّجت الكثير من العلماء والمحققين، فازدهرت العلوم وتطورت المعارف وانتشرت المذاهب والمجادلات الفكرية. وفي خضم هذا الجو الفكري كان للأئمة (ع) سلوكهم الخاص الذي يدل على مدرستهم الفكرية التي أسسوا لها.‏

عاش الإمام الرضا (ع) في القرن الثاني الهجري (148 ـ 203هـ)، حيث اتسع آنذاك النشاط الفكري وانتشر البحث والتأليف والتدوين والتصنيف، ونشأت المدارس والتيارات الفكرية والفلسفية.. فشهدت هذه الفترة ظهور علماء متعددين عاصروا الإمام كأصحاب المذاهب الفقهية: (الشافعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل). وشهد الإمام فقهاء أصحاب رأي كأبي يوسف القاضي وسفيان الثوري والشيباني وشريك القاضي ويحيى بن أكثم والكسائي والفراهيدي والأصمعي والهذيل العلاّف والنظام.. والعدد الكبير الآخر من العلماء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم واختصاصاتهم، فكان الإمام علي بن موسى الرضا (ع) هو الملجأ الأساس لأهل الفكر والمعرفة، يناظر علماء التفسير ويحاور أهل الفلسفة والكلام، ويرد على الغلاة أصحاب البدع، ويفتي في الأمور الفقهية، ويؤسس لقواعد الدين والتشريع الإلهي الصحيح. وقد قيل إن محمد بن عيسى اليقطيني قد جمع خمسة عشر ألف مسألة من المسائل التي أجاب عنها الإمام الرضا (ع).‏

وكان المأمون العباسي يعقد مجالس المناظرة بحضور الإمام (ع) والعلماء والمفكرين، مسلمين وغير مسلمين، فكان الإمام (ع) هو المحور، يحاجج صاحب كل مذهب بمحتويات مذهبه، ويبين أصول وقواعد المذهب الصحيح أمام كل الانحرافات والتشويهات التي ابتلي بها العالم الإسلامي.‏

وفي نظرة سريعة إلى القضايا الفكرية التي شاعت في تلك الحقبة الزمنية، نلاحظ أن أهم مسألة شغلت التيارات والمدارس الفكرية هي مسألة التوحيد. والتوحيد هو أساس الإسلام وقاعدة الفكر والتشريع، فحاول أهل البيت (ع) تثبيت العقيدة الصحيحة وتبني أصولها وجزئياتها، وتصدوا للآراء والعقائد الفلسفية والكلامية البعيدة عن فكرة التوحيد، فأسقطوا حججها بغية تصحيح الاعتقاد. وهنا لو حاولنا الدخول إلى عالم الإمام الرضا (ع)، لوجدناه يحتج بقوة وبرهان على العقيدة الصحيحة في التوحيد، ويصر على دحض كل الآراء المنحرفة في هذا المجال، ليتميز بذلك مذهب أهل البيت (ع) عن جميع الأفكار والآراء الواردة. فالإمام يوضح في الكثير من كلماته المعنى المقصود والصحيح من التوحيد، محدداً الصفات ومعانيها، وكيفية العلاقة بينها وبين الذات الإلهية المقدسة.‏

إن محاولة الإمام (ع) هذه كانت عملاً طبيعياً في ظل شيوع بعض الأفكار والآراء في التوحيد، التي أدت في الكثير من الأحيان إلى السقوط في هاوية التشبيه والتجسيم، وإضافة بعض الصفات البشرية إلى الله تعالى.‏

وكانت مسألة الجبر والاختيار من المسائل الأخرى التي طُرحت بقوة في تلك الحقبة، فشغلت بال العلماء والفلاسفة والمتكلمين، ووقع الخلاف بين الفرق والمذاهب، فقال البعض بالجبر حتى رفض أي قدرة اختيارية للإنسان أمام أفعاله، ونادى البعض الآخر بالتفويض المطلق، حيث خلق الله تعالى العباد وفوض إليهم أمر أفعالهم دون قدرة على التدخل فيها.. وهنا كان الإمام الرضا (ع) من الذين تصدوا لهذين التيارين، موضحاً العلاقة الصحيحة بين إرادة الله سبحانه وتعالى في إرادة العباد، فكان عليه السلام يقول: "إن الله لم يُطع بإكراه، ولم يُعصَ بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه".‏

وقد أوضح (ع) في أحاديثه خصائص التوجه الصحيح في المسألة، فكانت فكرة أهل البيت (ع) أن "لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين"، قائمة على أسس نظرية قوية واستدلالات برهانية لا تخل في العلاقة بين إرادة الله تعالى وعباده.‏

أما مسألة الإمامة فهي واحدة أخرى من أهم الأبحاث الفكرية التي شاعت، حيث تحدث الإمام عنها وعن صفات الإمام وخصائصه ومسؤولياته، ليعرف المسلم حقوقه وواجباته، وينمو وعيه وتتضح له معالم ومرتكزات الفكر السياسي، وبالتالي التمييز بين الآراء والنظريات التي التزم بها بعض أصحاب الفرق والرأي السديد والصحيح. قال الإمام (ع): "إن الإمام زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. الإمام أسس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف".‏

وفي الجانب الآخر كان الأئمة (ع) يشكلون الأسس الحقيقية للمدرسة الأخلاقية التربوية التي أفاضت على دنيا المسلمين أفكاراً ومعارف ومفاهيم وقيماً أخلاقية وتربوية، ما جعلها تشكل أساس بناء الشخصية، وقاعدة لصياغة المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس كانت وصايا الإمام (ع) التي توجه بها بداية إلى الشخص لتربيته وتهذيبه، فكان يرشده إلى طبيعة الأعمال المطلوبة، وما يجب الابتعاد عنه.‏

ما قدمناه هو قبس من هدي الإمام، وشعاع من نور معارفه وتوجيهاته في الأخلاق والعقيدة والتربية، تنير للمسلمين درب الحياة، وترسم لهم الصورة الحقيقية للشخصية الإسلامية وأبعادها التكاملية.‏

علي الحاج حسن‏

2006-10-30