ارشيف من : 2005-2008

السيد المسيح في الفكر الإسلامي

السيد المسيح في الفكر الإسلامي

يعتبر السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام رسول الله ونبيه الذي أرسل بالدعوة والوحي الى قوم في حقبة زمنية خاصة، حمل في شخصيته وعناوين دعوته وتفاصيل حياته نموذج الإنسان الإلهي الذي كان هدفه استمرارية دعوة الأنبياء والجهاد في سبيل هداية البشرية الى مقومات حياتها الصحيحة من خلال ما سيقدمه هذا الرسول من شريعة ودستور وقانون للحكاية عن النظام الإلهي.‏

اختلفت الصور المقدمة عن السيد المسيح (ع) وتفاوتت الأفهام في ادراك وجوده كشخص وكرسول حمل الوحي الى البشر، واختلفت الآراء أيضاً في مضمون الرسالة والدعوة والهدف الذي أتى النبي عيسى (ع) ليحققه على الأرض.‏

والإسلام بدوره أعطى صورة تشكل من النبي عيسى (ع) نموذج الرسول الإلهي، باعتبار ان القرآن الكريم هو الذي تحدث بداية عنه وعن سيرة حياته وتفاصيل شريعته، والقرآن الكريم كتاب لا يمسه الباطل والتحريف والتشويه، فلا بد من أن تكون حكاية للسيد المسيح على سبيل الواقع ودحض كل الآراء التي راجت، سواء بين أتباع السيد المسيح أو بين من يعتبرونه رسولاً أرسل للبشرية كافة على أساس الهداية، فهو رسول الله الى جميع أبناء البشر ولا يختص بقوم أو مذهب أو ما شابه ذلك.‏

ويمكن الاطلالة على بعض عناوين شخصية السيد المسيح (ع) كما جاء في القرآن الكريم:‏

ـ العبودية لله تعالى، حيث ان مجريات حركة السيد المسيح (ع) وحياته وطريقة دعوته تبين أنه كان يعتقد بأن وجوده إنما هو رهن الوجود الإلهي، فما هو الا عبد، والعبد لا يملك أي قدرة وأي سلطة في مقابل القدرة الإلهية المطلقة: "قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم ـ30).‏

ـ تجلت في شخصيته روح الأدب مع الله تعالى باعتبار المعرفة الصحيحة والدقيقة به، فكان خطابه: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني..." (المائدة ـ 117). ويبين سياق الآيات التي كانت تتحدث بلسان السيد المسيح (ع) أنه كان يبدأ كلامه بتسبيح الله تعالى وتنزيهه عن النقص، ثم ينفي عن نفسه أي قول أو عمل، ويوضح ان أمور العباد تعود كلها الى الله تبارك وتعالى.‏

ـ على مستوى علاقة السيد المسيح (ع) مع الأشخاص الآخرين يمكن القول إنه كان نموذج الإنسان الكامل، حيث تجلت في سلوكه معاني التواضع والرحمة والمحبة وحب الخير للجميع. وقد تحدثت الآيات القرآنية عن هذه الصفات التي حكمت تعامله مع الأفراد من حوله، فبينت انه كان يحمل الرحمة للناس والبركة والنفع لهم. اضافة الى التزكية والتعليم: "ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً".. (مريم ـ 21).‏

ـ أسماء السيد المسيح وألقابه في القرآن الكريم:‏

أطلقت الآيات القرآنية الشريفة مجموعة من الأسماء والألقاب التي تجلت في شخصية نبي الله عيسى (ع)، حيث توضح حقيقة هذه الشخصية والجوانب الكمالية التي تجلت فيها:‏

1 ـ عيسى، أطلق القرآن الكريم اسم عيسى عليه، والمقصود من هذا المفهوم كما تفيد اللغة انه السيد والمخلص والمنجي: "اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين" (آل عمران ـ 45).‏

2 ـ المسيح، وقد اختلفت الآراء في سبب تسميته بالمسيح، فقيل لأنه كان يمسح على المرضى فيشفيهم، وقيل لمسح الذنوب عنه، وقيل لأنه مسح الأرض، أي أكثر السياحة فيها، وقيل غير ذلك..‏

3 ـ السيد، والسيد هو الذي يسود غيره في الزعامة والملك، ويصح اطلاق السيادة على بعض المخلوقات، مع أن السيادة المطلقة لله تعالى باعتبار أنها تحمل بعض القيم والامكانيات العالية، فكان يقال للأنبياء سادة الخلق، وهكذا تحدث القرآن الكريم عن المسيح: "وسيداً وحصوراً" (آل عمران ـ 39).‏

4 ـ روح الله، حيث يبين هذا اللقب العلاقة الخاصة بين هذا العبد وبين الله تبارك وتعالى، وذلك عندما يكون العبد محل اصطفاء منه واختيار لشرفه أو لتميزه عمن سواه من الأشخاص: "انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه" (الإنسان ـ 171).‏

5 ـ كلمة الله، وكلمة الله تعبير آخر عن الموجودات التي تتجلى فيها معالم الدلالة على الله تعالى، وإذا كانت الموجودات باعتبار تكونها ووجودها وما تحمله من صفات تكاملية كلمات الله، فإن الأنبياء والأولياء هم أكثر كلماته دلالة على وجوده.‏

6 ـ الشهيد، وذلك لشهادته على أفعال أمته عندما يكون هو المرجع الأساس في التشريع والفكر والإشراف على الجماعة ومدى انسجامها مع الرسالة، وهو شاهد عليهم في الآخرة بطاعتهم أو معصيتهم أو ما شابه ذلك: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" (المائدة ـ 117).‏

مرة أخرى تحدث القرآن الكريم وأكد إرساله بالرسالة والوحي وحمّله التشريع الإلهي للناس، فتارة نلاحظ أن السيد المسيح يبين المسؤولية الملقاة على عاتقه: "قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم ـ30)، وتارة يتحدث الله تبارك وتعالى عن إرساله عيسى بن مريم بشريعة الى قومه بغية هدايتهم: "رسولاً الى بني اسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربّكم" (آل عمران ـ 49). وهذا يقتضي وجود وحي وتعاليم إلهية نزلت عليه: "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (آل عمران ـ 48). ولا بد من أن يرافق ارسال الرسول ما يدل على نبوته ويثبت صحة ادعائه، فكانت معجزاته العديدة التي رافقته منذ ولادته ونشأته: "اذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك اذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (المائدة ـ 110).‏

(*) شريعة السيد المسيح (ع)‏

تضمنت شريعة السيد المسيح (ع) مجموعة من التعاليم التي تشكل المحاور الأساسية للرسالة الإلهية، أهم ما جاء فيها كما يحكي عنه القرآن الكريم:‏

أ ـ الدعوة الى التوحيد، والتوحيد هو الركن الأول في طريق العبودية لله والاعتراف بالمبدأ الأول للوجود. وقد تمحورت رسالة النبي عيسى (ع) في الدعوة الى التوحيد وتبيين أصوله وأسسه: "إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" (آل عمران ـ 51).‏

ب ـ التشريع في مجال الحلال والحرام ومواجهة الانحلال والالتزامات والمحرمات التي كانت مفروضة على اليهود، وبالتالي تقديم نظام عملي لسلوك الفرد قائم على أساس ما يوافق الشرع الإلهي وما يخالفه والتمييز بينهما والعمل بالحلال والدعوة اليه والابتعاد عن الحرام والحض على تركه: "ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطعيون" (آل عمران ـ 50).‏

3 - الكلمة والحكمة في الميزان المعرفي هي تلك القدرة التي يمتلكها الشخص وتمكنه من التمييز بين النافع والضار والحسن والقبيح، وتجعله يزن الأمور على أساس القدرة النظرية الموجودة لديه ومدى ملاءمتها للمباني التي يعتمد عليها. وتدخل ملكة الحكمة ساحة الاعتقاد في الغالب لكونها وسيلة تتركز أهميتها في الأمور العقلية، لكون المباني التي تحكم الاعتقاد أموراً نظرية تدور مدار الرد والقبول والدليل والبرهان: "ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطعيون". (الزخرف ـ 63).‏

4 ـ وتضمنت شريعته مسألة الجهاد في سبيل الله والعمل على أساس الوصول في القيامة الى الفوز والفلاح: "ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن.." (التوبة ـ 111).‏

بما أن الإنجيل كتاب يتضمن التشريع الذي أرسل به النبي عيسى (ع)، فهو يحتوي على الأحكام والتشريعات التي ذكرنا ومسائل أخرى. من جهة أخرى أكد القرآن الكريم أن الأحكام المذكورة في الإنجيل لو طبقت لكانت كفيلة بسعادة الفرد والمجتمع وإخراجه من ظلمات الجهل والضياع الى نور الحق والحقيقة.‏

قال الله تعالى: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.." (المائدة ـ 66).‏

والذي يلفت الانتباه هنا أن القرآن الكريم تحدث عن نسبة الإنجيل الى النبي عيسى (ع)، ولم تجر الاشارة الى نسبته الى البعض الآخر كما هو رائج، فهو نظام وقانون إلهي حمله النبي لقومه: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين" (المائدة ـ 46).‏

علي الحاج حسن‏

2006-10-30