ارشيف من : 2005-2008
استقلال الجبل الاسود: قراءة في التاريخ ونظرة على المستقبل
كتب توفيق المديني
حقق أنصار الداعين إلى استقلال جمهورية الجبل الأسود (مونتينيجرو) عن صربيا بموجب الاستفتاء التاريخي الذي جرى يوم الأحد 21 أيار/مايو الجاري ، والذي بلغت نسبة المشاركة فيه 86،3 في المئة من أصل 485 ألف ناخب يحق لهم التصويت، أكثر من55 في المائة من أصوات المقترعين الذين صوتوا لمصلحة الاستقلال.
وهذا يعني أن هذه الجمهورية الصغيرة أصبحت مستقلة عن صربيا.وكان الاتحاد الأوروبي قد حدد نسبة 55 في المئة للإعتراف باستقلال الجمهورية.
وكان رئيس وزراء الجبل الأسود ميلو دجوكانوفيتش أعلن بعد صدور نتائج الاستفتاء أن بلاده اختارت الاستقلال، مشيرا إلى أنها استعادت استقلالها بعد 88 سنة من انضمامها الى صربيا. وظلت هذه الجمهورية بحسب قرارات مؤتمر برلين لترسيم الحدود الأوروبية العام 1878، دولة مستقلة ملكية حتى العام 1918 عندما تخلى آخر ملوكها نيكولا بيتروفيتش عن السلطة نتيجة الضغط الشعبي، فانضمت إلى صربيا.
ومن المعروف تاريخيا أن يوغوسلافيا الاتحادية كانت تضم أكثر من 22 مليون نسمة، و تتكون من ست جمهوريات ، وإقليمين للحكم الذاتي هما كوسوفو و فوفودينا الذي تسكنه أغلبية مجرية ، كان قد ألحق بيوغوسلافيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، و إقليم السنجق المسلم الذي اقتطع من البوسنة في مؤتمر برلين 1878 وتم تقسيمه بين صربيا و الجبل الأسود. ويقع هذان الإقليمان ضمن جمهورية الصرب. وقد لعب "تيتو" دور الموحد للشعب اليوغوسلافي المتكون من عدة قوميات، وخاض حربا تحريرية ضد الاحتلال النازي الألماني. غير أنه بموت "تيتو" و تجدد الخلافات القومية، انهارت ركيزة التماسك الوطني للنظام الفيدرالي اليوغوسلافي، التي كانت قائمة.
ومع نهاية الحرب الباردة في تشرين الثاني/نوفمبر 1989، انهار جدار برلين بنهاية مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في كانون الأول/ديسمبر عام 1991 مع زوال الاتحاد السوفياتي.
في غضون ذلك كانت يوغوسلافيا تعيش أزمو كوسوفو هي خاتمة عقد(1991-1999) من التقلبات والفوضى والتلمس في مجال السياسة الدولية، كما أنها ترسم إطارا جديدا للقرن المقبل. وكان إقليم كوسوفو يشكل قنبلة موقوتة في يوغوسلافيا، حيث شهد منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي صراعا بين الأقلية الصربية والأكثرية الألبانية.
ورغم هذا الإئتلاف النادر والمعقد للإيديولوجيات القومية والاشتراكية، فإنه من الواضح أن يوغوسلافيا مريضة بجمهورياتها، و بالصراع بين الصربيين والألبان، الذي عاد إلى نبش التاريخ والنزعة القومية والتيارات القديمة. وكان الاتحاد اليوغسلافي يتألف من 6 جمهوريات فيدرالية استقل منها سلوفينيا وكرواتيا في أولى الحروب اليوغوسلافية، التي دارت في الصيف والخريف من العام 1991، وانتهت بمجزرة رهيبة في سلوفينيا الكرواتية. وقد وقعت المواجهة في هذه الحرب بين الاستقلاليين الكروات والصرب الكروات الذين كانوا قد انفصلوا عن كرواتيا في وقت كانت هذه الأخيرة تتجه نحو الاستقلال. وحصل الصرب على الدعم الحاسم من الجيش الشعبي اليوغوسلافي، الذي تحول إلى أداة في يد القوميين الصرب. الا أن الضحايا لم يكونوا جميعهم من الصرب أو من الكروات وحسب.
و في أبريل عام 1992، اعترف الأوروبيون بجمهورية البوسنة والهرسك، التي أعلنت عن استقلالها في أكتوبر 1991.و في أبريل 1993، أصبحت مقدونيا جمهورية مستقلة و قبلت عضويتها في هيئة الأمم المتحدة. وفي 21 تشرين الثاني /نوفمبر 1995، وقع الرؤساء الصربي، والكرواتي والبوسني اتفاقيات دايتون، التي صدّقت على تقسيم البوسنة إلى كيانين: جمهورية صربيا والفيدرالية الكرواتية المسلمة. وتبدو المصالح متناقضة لمختلف الموقعين على اتفاقات دايتون. فإذا كان الزعماء المسلمون قد دافعوا دوما، على المستوى الرسمي، عن فكرة البوسنة الموحدة، فالقوميون الصرب لا يترددون في إطلاق صفة "الدولة ذات السيادة المحدودة" على كيانهم. وما يمكن أن يزيد اليوم انقسام البوسنة حدة و يرسخ أكثر فأكثر في أرض الواقع تجزئة النفوس، ما يطالب به كرواتيو الهرسك من "كيان ثالث" لهم (على أساس شعارات من نوع :"لماذا هناك ثلاثة شعوب و كيانان اثنان؟").
ولقد أعطت أزمة كوسوفو الولايات المتحدة الأمريكية فرصة لتطبيق المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي قبل اعتماده رسميا في واشنطن يوم 25 نيسان/ابريل 1999.فتدخل الحلف الأطلسي في حرب كوسوفو، وخلال شهري أيار/مايو و حزيران/ يونيو لم يتوصل الحلف إلى تحقيق الانتصار.
ولقد ذهب النموذج التيتوي في حماية الهويات أدراج الرياح في الوقت نفسه مع تفكك الاتحاد اليوغوسلافي. وعملت جميع الدول التي ورثته على أن تستمد كل شرعيتها من طابعها القومي. وقد توج هذا التطور إلى حد ما بنجاح التجربة في كرواتيا، لكن على حساب هجرة القسم الأكبر من السكان الصرب في هذه الجمهورية. أما في مقدونيا فقد كان من شأن الرغبة في تأسيس شرعية الدولة على مقاربة اتنوـ قومية أنه أوقع البلاد في الحرب الأهلية. وللمفارقة فإن صربيا ظلت إحدى الدول المتعددة الإتنيات أكثر من غيرها في المنطقة. وكان من شأن "ثورة" اكتوبر 2000 الديموقراطية أن حملت إلى الواجهة رهان تأسيس صربيا كدولة ـ أمة.
وفي زمن تفكك يوغوسلافيا، وبروز النعرات القومية ،وظهور " القيادات البديلة" ، قرر الجبل الأسود في ذلك الحين البقاء ضمن يوغوسلافيا التي أصبحت بعد ذلك جمهورية " صربيا والجبل الأسود". لكن ذالك التحالف سرعان ما بدأ بالتفكك وزاد تصدعه بعد حرب كوسوفو 1998-1999. وفي عام 2000 اتخذ الجبل السود اجراءات استقلالية تتعلق بالجمارك والعملة، و بدأ سياسيوه يتصرفون كحكام دولة مستقلة ما استدعى تدخل الاتحاد الأوروبي الذي أشرف على "اتفاقية بلغراد" الموقعة بين صربيا و الجبل الأسود في أذار/مارس 2003. وبذلك شكلت الجمهوريتان، اتحاداً "هشاً" على أنقاض ما تبقى من يوغوسلافيا ونصت الاتفاقية على اجراء استفتاء على الاستقلال في الجبل الأسود بعد ثلاث سنوات، وهو ما تم الأحد الماضي. و كانت المجموعة الدولية ، لا سيما الاتحاد الأوروبي قد اشترط على نعم لهذه الاستفتاء لهذه الجمهورية الأخيرة أن تجمع 55 في المئة من أصوات الناخبين لكي يكون الاستقلال مستوف للشروط القانونية. والحال هذه، فإن نتيجة الاستفتاء لا تغير شيئا في الواقع، إذ إن الروابط بين المكونين للاتحاد بين صربيا والجبل الأسود كانت متفككة. فقد كان لجمهورية لجبل الأسود رئيسها، وحكومتها، وعلمها، و عملتها ( اليورو). ومن الناحية الرمزية، يصعب على صربيا أن تتقبل انفصال الجبل الأسود، لأنها تجد نفسها متقلصة إلى حدود إثنيتها القومية .
وفضلا عن ذلك، سيمهد استقلال جمهورية الجبل الأسود لاستقلال إقليم كوسوفو، إذ لا توجد أي معارضة لذلك من قبل الدول العظمى بما في ذلك روسيا و الصين اللتين أعربتا عن عدم اعتراضهما على استقلال كوسوفو. فبعد موت الزعيم إبراهيم روغوفا ، لم يتغير شيئا من المعادلة: فقرار الأمم المتحدة رقم 1244، الذي يقضي بمنح كوسوفو حكما ذاتيا جوهريا غير مطبق. وقبل الحديث عن وضع الإقليم، يجب تحقيق الشروط الضرورية لمجتمع ديمقراطي ومتعدد الإثنيات، بينما نجد في الوقت الحاضر مواقف الصرب والألبان متناقضة جذريا.
وهكذا بات الحل الوحيد للإقليم هو التقسيم بين المسلمين والصرب. فالقسم الشمالي لكوسوفو الذي يعيش فيه 100000 صربيا يجب أن ينضم إلى صربيا، بينما يحصل باقي الإقليم الذي يسكنه الألبان على الاستقلال. ولم يعد الاعتراض موجودا سوى لدى صربيا و هو اعتراض مهزوز داخليا جراء وجود مؤيدين و معارضين لهذا الانفصال الجديد. بيد أنه ليس إقليم كوسوفو وحده هو الذي يعاني من الاضطهاد الصربي، بل إن الأقلية المجرية ( 300 ألف التي تسكن إقليم فوفودينا أرسلت عدة طلبات للاتحاد الأوروبي و حلف شمال الأطلسي، تطالب بمنحها حكما ذاتيا، وإنهاء ما تصفه بالتمييز الذي تتعرض له داخل صربيا، في حين تجد الأقلية المسلمة (500 ألف نسمة) التي تقطن في إقليم السنجق نفسها في وضع صعب لأنها لا تجد من يتبنى قضيتها على الصعيد الدولي.
لقد توصلت المجموعة الدولية إلى نتيجة مفادها أنه لا يجوز أن تجبرعلى العيش شعوبا بالقوة في إطار كيان واحد. فالإستقلال مبدأ جدير بالاحترام ، و إن كان غير معفي من مخاطر.و إذا طبق بحذافيره، يمكن أن يقود إلى مزيد من بلقنة المنطقة بالعدوى، في جمهورية البوسنة والهرسك، حيث أن التعايش بين البوسنيين والصرب و الكرواتيين هو في حقيقة الأمر تعايش مفروض بالقوة و مصطنع إلى حد كبير، كما أن التوازن بين السلاف و الألبان في مقدونيا هو هش أيضا.
خاص ـ الانتقاد.نت : 26/5/2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018